غياب المؤرخَين العسكر والعثيمين
فُجعت الأسرة الأكاديمية في المملكة العربية السعودية هذا العام بفقد اثنين من أبرز مؤرخيها، أحدهما الدكتور عبدالله العثيمين، والآخر هو الدكتور عبد الله العسكر. وقد كان عبد الله العثيمين واحداً من أهم الأساتذة السعوديين الذين اهتموا بتاريخ حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وعلاقتها بنشأة المملكة العربية السعودية، وكان حريصاً على تحليل تلك الحركة وموقف المعاصرين منها. كما كان شاعراً عروبيًا أصيلاً، نشر العديد من الدواوين الشعرية، وكذلك كان أميناً لجائزة الملك فيصل، حريصاً حتى الرمق الأخير على العمل بدأب لتشجيع الباحثين والأدباء والمؤرخين على البروز على المسرح الإقليمي، كنجوم لامعة في سماء الأدب والثقافة والشعر.
أما المؤرخ الآخر الذي غاب نجمه الساطع خلال الأسبوع الماضي، فهو الصديق العزيز الدكتور عبد الله العسكر، وكلاهما عملا كأستاذين للتاريخ بجامعة الملك سعود بالرياض. وقد عاش العسكر مهووساً بتاريخ نجد واليمامة على وجه الخصوص، وكتب رسالته للدكتوراه عن تاريخ منطقة اليمامة، دارساً تلك المنطقة خلال حقبة العصور الإسلامية الأولى. وكان يرى (انظر كتابه عن اليمامة في العصور الإسلامية الأولى المنشور من قِبل دار إثاكا ودارة الملك عبد العزيز عام 2002) أنّ اليمامة، التي كان يقطنها بنو حنيفة، كانت سلّة الغذاء التي تمد مكة والمدينة باحتياجاتهما من القمح والتمور. وكان بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم حين التقى وفداً من سكانها، بعد إسلامهم، أن يطلب منهم وقف إمدادات الأغذية عن قريش وحلفائها بمكة، غير أن رحمته وعطفه على قومه حالت من دون ذلك، آملاً أن تنتهي قريش عن غيّها، وهو ما حدث بالفعل بعد الفتح.
ويذهب عبد الله العسكر في كتابه عن اليمامة إلى أنّ هذا الجزء من الجزيرة العربية كان يطمح الى الدوام إلى الاستقلال عن مكة والمدينة، واستغلال عائدات التجارة البينية بين العراق وفارس من جهة، واليمن من جهةٍ أخرى، وكذلك تصديره لفائض إنتاجه من الطعام، ما جعل سكّانه الأصليين من بني حنيفة يسعون على الدوام إلى التعبير عن استقلالهم السياسي، كما استقلالهم الاقتصادي. وعبّروا عن ذلك بتمرّدهم على الخلافة الإسلامية الذي قاده مسيلمة الكذاب الذي كان يطلق على نفسه «رحمان»! وبعد أن نجح الصحابي خالد بن الوليد رضي الله عنه في القضاء على حركة مسيلمة الكذاب في حروب الردة، استطاعت دولة المدينة بقيادة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن تبسط نفوذها على كامل أرجاء الجزيرة العربية.
ولم تستقر الأوضاع في اليمامة، فبعد مقتل مسيلمة في معركة العقرباء بستة عقود، ظهرت على المسرح حركة للخوارج يقودها نجدة بن عامر، الذي نجح في تكوين دولة واسعة الأطراف ممتدة إلى البحرين في شرق الجزيرة العربية، وإلى أجزاء أخرى من جزيرة العرب. إلا أنّ ايديولوجيتها المتطرفة وصراعها مع حكومة عبد الله بن الزبير والدولة الأموية في آنٍ واحد، قاد في النهاية إلى زوالها. ثم يعود العسكر ليرينا كيف استطاع محمد بن الأخيضر بعد أقل من ثلاثين عامًا أخرى أن يحاول إنشاء إمارة علويّة في اليمامة والخرج وما جاورها، مستفيداً من الموارد المائية والزراعية المتوافرة في هذه المناطق، ومن بُعدها عن قاعدة الدولة العباسية في بغداد.
والجميل في كتاب المرحوم العسكر، ليس فقط السرد التاريخي لتاريخ اليمامة، بقدر محاولته تلمّس الأسباب الموضوعة السياسية والاقتصادية التي دفعت بهذه المنطقة من جزيرة العرب إلى محاولة الاستقلال عن دولة المدينة، لأنها بدأت تحسّ بفقدان أهميتها الاستراتيجية كنقطة وصل بين الدولة الفارسية وجنوب الجزيرة العربية، وللتعبير عن رغبة جموحة للاستقلال وإثبات الذات، بعد أن توسّعت الدولة الأموية والعباسية في أجزاء واسعة من المشرق العربي القديم.
غير أنّ المؤرخ العسكر كان كذلك ينظر في الصراع القبلي في إقليم اليمامة بين القبيلة الزراعية القوية بني حنيفة، ومنافسيهم من سكّان الإقليم نفسه، بني تميم. وحين حلّت الكارثة ببني حنيفة في أعقاب حروب الردة، هاجر كثير منهم من قرى الإقليم، وكانت قبيلة تميم من أهم القبائل العربية التي استفادت من هذا الانكسار العسكري لبني حنيفة، وانتشرت بشكلٍ واسع في أرجاء الإقليم، ما ساعد في تحولها من البداوة إلى الزراعة.
وحين نقرأ كتاب العسكر، الذي كان أصلاً أطروحة للدكتوراه، نجد الباحث متحمّساً لهذا الإقليم الذي ينتمي إليه، محاولاً حتى تفسير ظهور حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونجاحها في الإقليم قبل قرنين ونصف، ونسبتها إلى هذه النزعة الاستقلالية للإقليم، التي تعبّر عن نفسها بشكلٍ ايديولوجي وسياسي، لكونها ترتكز على موارد زراعية ومائية كافية لتلبية احتياجات سكانها، وتصدير الفائض من الغذاء للمناطق الغربية من الجزيرة العربية في مكة والمدينة، قبل أن تتحول هذه المنطقة في ظل الإمبراطورية الإسلامية الواحدة، إلى استيراد الغذاء من الشام والعراق ومصر، بعد أن أصبحت هذه الأقطار جزءاً من الإمبراطورية الإسلامية الواسعة.
نتذكر عبد الله العسكر الزميل والصديق والباحث والمؤرخ الذي خطفته يد المنون من بين ظهرانينا، وكلنا حزن وألم على فراقه. رحمك الله يا أبا نايف، وألهمنا وأهلك الصبر والسلوان على فراقك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
------------------
أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود