هي فعلاً الجزء المرئي من جبل الثلج العائم: أي الخطاب الديني، وتقفز الآن إلى الواجهة أكثر وأكثر، خارجياً وداخلياً. كرد فعل لثلاث هجمات في فرنسا خلال الأسبوعين الماضيين، شددت فرنسا على المساجد وقررت منعها من أي تمويل أجنبي. الرقابة على المساجد موجودة في كثير من أنحاء أميركا وأوروبا منذ فترة، لكن بطريقة غير رسمية وغير صريحة. أصبح المسجد موضع شك لدى البعض، وقد نصل في فترة قريبة إلى المطالبة بأن يكون موضوع خطبة الجمعة محل توافق عام، بل توجيه الخطبة نحو موضوعات تحض على تنمية المجتمع وتحفز التسامح بين الأديان المختلفة.. كل هذا مطلوب، وقد تكون الخطبة إحدى وسائله، خاصة في الداخل الإسلامي نفسه، لكن قد يكون التوجيه في طريق مختلف. في العالم الإسلامي الذي تسيطر عليه أمية عالية، يزداد وزن الخطبة وأهميتها كوسيلة توعية وتعليم. فمن الناحية الرقمية فقط يتابع الخطبة عدد أكبر ممن يترددون على المدارس والجامعات، وفي حين أن سنوات الدراسة محدودة، فإن التواصل مع خطبة الجمعة يبدأ حتى قبل الدخول إلى المدرسة، ويستمر مدى الحياة، مما يبين مركزية خطبة الجمعة في حياة المسلمين. هل معنى هذا أن نقوم بتلقينها الجميع وإجبار الأئمة والمصلين على ترديدها عن ظهر قلب؟. هذا هو الموضوع الذي أدى إلى انقسام المؤسسات الإسلامية في مصر، خاصة بين دعامتيها، الأزهر والأوقاف. وبينما يمثل الأزهر التعليم والبحث الإسلامي، شأنه في ذلك كشأن مؤسسات إسلامية مشهورة كجامعة الزيتونة في تونس، فإن وزارة الأوقاف هي جزء من البيروقراطية التي يندرج بداخلها معظم أئمة المساجد كموظفين تابعين. وقد قررت الوزارة أخيراً معاملتهم حرفياً كموظفين في أداء خطبة الجمعة، أي أن يتسلموا نصاً مكتوباً ويقومون بقراءته، وإلا تعرضوا للعقاب لمخالفة تعاليم الوظيفة، عقاب يتراوح بين الخصم من المرتب وفقدان الوظيفة. إنها ثقافة التلقين في أقوى صورها، دون أي اعتبار لاختلاف المكان أو السن أو الظروف الاجتماعية والسياسية. وفي تبريرها لذلك القرار البيروقراطي، قالت الوزارة إنها تبغي محاربة التطرف في الخطبة والمحافظة على مستوى فكري معين عند الأئمة. هذا التبرير المعلن كدواء ربما يكون أشد خطراً من الداء نفسه، لأن شعور المصلين بأن إمامهم مجرد ببغاء يقرأ من ورقة مكتوبة، دون اكتراث لمشكلاتهم واهتماماتهم المحددة، سينصرفون عن الإنصات له، بل قد يبحثون عن بديل في المساجد والزوايا المحلية، حيث يوجد التطرف ويصبحون فريسة سهلة لأئمة ناقصي ثقافة وتعليم. والواقع أن تدني مستوى بعض الأئمة مشكلة حقيقية، كما وثقنا في أكثر من 100 صفحة ضمن تقرير الذكرى العاشرة لتقارير التنمية العربية بوساطة برنامج الأمم المتحدة للتنمية. وطالما الجداول والأشكال البيانية واضحة بهذا الشأن، فلا جدال حول تدني مستوى بعض الأئمة والتعليم الديني عامة في بلادنا العربية وكذلك الإسلامية، وهذه مشكلة حقيقية. لكن الخطبة المكتوبة تذهب في عكس مواجهتها بفاعلية وأمانة عن طريق تدعيم ملكات البحث والاجتهاد بدلاً من الاعتماد المفرط على التلقين والقراءة دون تفكير. في الأزهر الشريف اعترضت هيئة كبار العلماء على سياسة الخطبة المكتوبة كوسيلة لمواجهة الفكر التكفيري، فهذه تؤدي بعد فترة إلى تسطيح فكر الإمام مما يقلل من قدرته على مناقشة الأفكار المنحرفة وتفنيدها. لذا فالأسلوب الأفضل هو تدريب الخطيب وإصقاله بمهارات البحث العلمي والابتكار، بما يناسب بيئته، حتى يجتمع المصلون حوله. وفي استطلاع للرأي حول الموضوع على صفحات «صوت الأمة»، كان 280 من الأئمة ضد الخطبة المكتوبة، بينما أيدها 8 فقط، فهل يُنصت الوزير؟ ------------------- د. بهجت قرني* *أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية -القاهرة