ستظل حقيقة المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا مؤخراً مختلفاً حولها وستظل أسرارها الغامضة عصية على الفهم والموضوعية إلى فترة طويلة من الزمن.. إن ما جرى ويجري في تركيا يكشف الطبقة الأولى من الحقائق والأسرار، وقد ظهر ذلك في كلام الرئيس رجب طيب أردوغان في الحوار التلفزيوني الذي أجرته معه قناة CNN وبقرارات حكومته المستعجلة إلى درجة أن بعض المعلقين والمتابعين لأحوال تلك البلاد اعتبروا أن تلك القرارات الدرامية كانت معدة وجاهزة للتنفيذ قبل وقوع الانقلاب الفاشل، و«زعموا» أيضاً أن قرارات الفصل من الخدمة التي طالت أكثر من ألفين من القضاة ومن بينهم أعضاء المحكمة الدستورية (أعلى هيئة قضائية في تركيا) التي كانت «متهمة» من وجهة نظره بعرقلة سياسة الحكومة والوقوف سداً في وجه محاولاته «إحكام قبضة رئيس الجمهورية» على الهيئة القضائية المستقلة حكماً بنص الدستور.. ومحاولاته إدخال التعديلات التي طرحها على الدستور التركي التي عارضتها المحكمة الدستورية. ولم يخفِ بعض كبار قضاة تركيا موقفهم هذا، متهمين الرئيس بأنه يريد «البطش القانوني» بخصومه السياسيين من أحزاب المعارضة والمثقفين ورجال القضاء والشرطة والجيش الذين استشعروا الخطر منذ أكثر من عام وبضعة أشهر. وجاءت الفرصة التي انتظرها.. ولعل من الملاحظات الذكية التي نسبت لأحد المعلقين الأميركيين حول تحركات الرئيس أردوغان أنه ساعة وصوله إلى مكتبه قد بدأ إعلان قراراته بـ«تطهير» الهيئة القضائية بالاسم والوظيفة ومعها الشرطة العلنية والسرية التي يقول قادتها إن الفضل في إفشال الانقلاب يرجع إليها بعد الشعب التركي الذي حاصر الانقلابيين ووقف سداً منيعاً دفاعاً عن «الديمقراطية» ثم شمل «التطهير السريع» بعض رجال ونساء الخدمة المدنية الذين ذهبوا تحت القصف الجوي إلى مكاتبهم. وحتى مساء يوم الاثنين الماضي فإن محصلة التطهير الذي شمل جميع مؤسسات وهيئات الإدارة الحكومية بلغت تسعة آلاف من رجال الشرطة والخدمة المدنية والقضاء وولاة المديريات (ثلاثين من حكام المديريات واثنين وخمسين من مفتشي الخدمة المدنية وستة عشر مستشاراً، وهذه المحصلة حسب ما أوردته وكالة أنباء الأناضول الحكومية وما زال تطهير الجهاز الحكومي في مختلف مفاصله جارياً). وكما سبقت الإشارة فإن مما يشاع الآن أن أردوغان إنما يريد التخلص من معارضيه من القضاة ورجال الشرطة والخدمة المدنية.. وقد نجح في ظل الفوضى التي سادت تركيا مع الانقلاب في تنفيذ «خطته المحكمة» كما وصفها بعض المعلقين. وعلى الصعيد الخارجي فإن علاقات تركيا مع الحليف الأول الولايات المتحدة، والشريك الأول حلف الأطلسي، وصلت قمة التوتر.. فأميركا وأوروبا تعارضان اتجاه أردوغان إلى إعادة العمل بعقوبة الإعدام التي قد تنفذ في حق المتهمين بالخيانة الوطنية وقد قدمتا «النصح» للرئيس التركي الذي يقول إن الأمر هو مطلب الشعب وإقراره بيد البرلمان (ولحزبه الأغلبية المطلقة فيه).. ويضاف إلى ذلك أن مطالبته الولايات المتحدة إعادة خصمه اللدود المفكر الإسلامي ورئيس حزب الرفاه الذي كان أردوغان من شبابه قبل حله، واتجاه أردوغان ومجموعة من شباب الرفاه لتأسيس حزب العدالة والتنمية الحاكم الآن في تركيا. ومهما كانت حقيقة محاولة الانقلاب الفاشل فمن المؤكد أن تركيا مقبلة على مرحلة سياسية جديدة تعود بها إلى حضن العسكرية المهذبة التي اعتمد عليها أردوغان في تحركاته الأخيرة.. ولكن لذلك ثمنه فأوروبا لن تقبل بعضوية تركيا الإسلامية العسكرية في الاتحاد الأوروبي. وأميركا تلوح بإمكانية استغنائها عن القاعدة الجوية التي تسهل على الحلف الدولي ضد الإرهاب مهمته في ضرب «داعش». وفي الغالب سيقوم أردوغان بحل البرلمان (بعد إجازة قراراته المعلنة) وإجراء انتخابات جديدة تشريعية ولرئاسة الجمهورية، فالرجل فيما يبدو عازم على القيام بتغيير وجه البلاد على طراز ثورة كمال أتاتورك الذي أنهى الخلافة العثمانية وأسس تركيا العلمانية، ولكنه طراز ذو محتوى بمسحة يمينية وهي مغامرة قد تزيد من التوتر الشعبي في تركيا، وتزيد من الانقسام والاستقطاب السياسي، وآخر الإحصائيات المعلنة تقول إن المعارضة الديمقراطية التركية تتقاسم البلد مع حزب العدالة وحلفائه، 50% من المستطلعين صوتوا لمصلحة المعارضة الديمقراطية.. ولن تشهد تركيا هدوءاً وجواً سياسياً طبيعياً في المدى القريب، لأن الهدوء والاستقرار يحتاج إلى زمن طويل وسياسة حكيمة.