في مارس عام 2012، بعد مقتل الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، وبدء الاضطرابات في ليبيا، قرر الروائي هشام مطر العودة إلى بلاده التي تركها في عمر الثمانية أعوام، في محاولة لاكتشاف ما حدث لوالده السياسي المعارض للنظام الليبي جاب الله مطر. وفي عام 1990 كان جاب الله مطر قد اختفى في ظروف غامضة، تبين بعدها أنه نقل إلى طرابلس، وأودع في سجن «أبو سليم»، الذي اشتهر باسم «المحطة الأخيرة». وكان هشام طالباً في لندن ويبلغ من العمر 19 عاماً وقت اختفاء والده. وعلمت الأسرة أن الأب اقتيد إلى ليبيا، عندما نجح في تهريب ثلاث رسائل وشريط مسجل أثناء السنوات الأولى من سجنه. وعلى رغم ذلك، توقفت الرسائل بعد عام 1996، وكان ذلك نذير شؤم، فبمرور السنوات، تبيّن أنه في يونيو من ذلك العام، تعرّض 1270 سجيناً من نزلاء سجن «أبو سليم» إلى القتل في ساحة السجن. وبعد أن فقد هشام الأمل في أن يكون والده على قيد الحياة، زعم سجين آخر أنه قد شاهد جاب الله في عام 2002. وعندما سقط نظام القذافي في عام 2011، سنحت الفرصة أمام هشام للعودة إلى ليبيا والبحث عن الحقيقة بشأن مصير والده. وفي كتابه الجديد «العودة»، يروي هشام تفاصيل رحلته إلى ليبيا بحثاً عن والده وإرث بلاده الذي ضاع في خضم الاضطرابات والصراعات الدائرة. واستغل المؤلف غضبه ومعاناته ومأساته فيما بدا كتابة شهادة على ما حدث لوالده وأسرته وبلده. ويبدأ الكتاب بانتظار هشام وزوجته، المصورة المولودة في أميركا، ووالدته في مطار القاهرة من أجل الذهاب إلى بنغازي، وشعوره بالضيق من «وساوس اللحظات الأخيرة»، لافتاً إلى أن «العودة بعد كل هذه السنوات كانت فكرة سيئة». وقال: «فكرت فجأة في أن أسرتي غادرت في عام 1979 قبل 33 عاماً، وكانت تلك الهوة التي فصلت الأب عن ابنه البالغ من العمر 8 سنوات». وانعكس تشوش ذهن المؤلف في استطراده الكبير في الكتاب، الذي يتأرجح بين المدن والسنوات داخل كل فصل، ويمزج التاريخ الوطني بقصص الأسرة، مع الذكريات والمستندات. ويكشف الكتاب عن إيمان المؤلف القوي بالتعازي والسلوى التي يجدها في إخبار القصة. ويسلط الضوء على لقائه بأعمامه وأبناء عمومته الذين تم الزجّ بهم في «أبو سليم» بتهمة التآمر مع والده، وقد أنصت إلى حديثهم عن الحياة داخل السجن، والاتصال المتقطع بينهم وبين جاب الله. وفي أحد النصوص المهمة في الكتاب، يسلط هشام، رغم تردده، الضوء على زيارته إلى مكتبة بنغازي، إذ أعطاه رجل عجوز مجموعة من المجلة الطلابية تعود إلى حقبة الخمسينيات من القرن الماضي. وفي هذه المجموعة قصص قصيرة كتبها جاب الله عندما كان طالباً. وكان هشام يعلم أن والده مولع بالشعر، ولكن لم تكن لديه فكرة أن والده كتب النثر. وتتضمن المجموعة قصة كتبها والده عن طفل يعاني سلسلة من الأحداث المأساوية، لكنها تنتهي بقدرته على الصمود «والعمل والبقاء». ويشير المؤلف إلى أن هذه العبارة تحديداً جالت بذهنه «مع قوة جرس إنذار» في أحلك لحظاته خلال العقود السابقة. وقال: «سمعتها عندما وقفت على حافة جسر داركول في باريس، أحدق في المياه، وها أنا لا أزال أسمعها اليوم». وفي خضم إحباطه أثناء البحث عن والده، كانت تلك القصص بمثابة «اكتشاف مهم»، ويصفها هشام في كتابه «بأنها كانت هبة أرسلت إلي عبر الزمن، لتفتح نافذة على حياة وشباب الرجل الذي أصبح والدي». والقذافي كان يخشى من الكُتاب، لأن رواياتهم للأحداث تختلف عن روايته. وفي عام 1977، نظم الديكتاتور الليبي السابق، بحسب الكتاب، مهرجاناً أدبياً، واعتقل جميع الحضور. ويفسر ذلك السبب في أنه عندما سقط النظام، تم نشر أكثر من 150 صحيفة في بنغازي وحدها. ويعتبر «العودة» حالة تذكر تنطوي على تحدٍّ، ورفضاً فنياً للأكاذيب والأوهام الرسمية لنظام القذافي. وفي بحثه عن العدالة، يصف المؤلف بعباراته المتأنقة والمتعمدة بلادة الاستبداد. ومن أبرز ما يميز كتاب هشام مطر صياغته باللغة الإنجليزية، ففي حين أن العربية هي لغته الأم، إلا أنه ولد في نيويورك، حيث كان والده يعمل ضمن البعثة الليبية في الأمم المتحدة، وبعد رحيله عن ليبيا، التحق بمدارس بريطانية وأميركية في القاهرة، قبل الانتقال إلى مدرسة داخلية في إنجلترا. والتحق بعد ذلك، بكلية «جولدسميث»، حيث استقر في لندن منذ ذلك الحين. وعلى رغم أن الإنجليزية هي لغته الثانية، لكنها اللغة التي عاش وعمل بها معظم حياته. وثمة أشياء كثيرة أراد المؤلف البحث عن تفاصيلها، فوالده علم مخاطر الأنشطة التي قام بها، إذ كان يدبر انقلاباً داخل ليبيا، وكان يساعد في تمويل معسكر تدريب في تشاد، وأنفق على أنشطته ثروته التي بلغت ستة ملايين دولار، والتي جمعها من استيراد بضائع غربية بعد مغادرة ليبيا. وعقب اعتقاله، اضطرت أسرته إلى الاعتماد على نفسها. بيد أن المؤلف عجز عن زيارة سجن «أبو سليم»، وعلى رغم وجود كثير من التفاصيل في الكتاب، لكنه لم يستطع معرفة ما حدث لوالده، وإن كانت أدلة قوية تشي بأنه قتل أثناء المذبحة التي وقعت في السجن عام 1996. وتم تدمير المستندات، ولم تكلل عملية البحث عن شهود بالنجاح. ولا أمل في العثور على رفات جاب الله، فجثث ضحايا المذبحة دفنت في مقابر جماعية، لكنها نبشت بعد ذلك، ونثرت في البحر، حسبما أكد المؤلف في كتابه. وتحولت قصة بحث هشام عن والده إلى طريقة لسرد قصة ليبيا ذاتها. فدورات الأمل واليأس الطاحنة تسهل رؤيتها في تاريخ البلاد. وعندما استولى القذافي على السلطة في انقلاب عام 1969، تم سجن جاب الله لبضعة أشهر، إلى جانب ضباط رفيعي المستوى في الجيش، لكنه ظل يأمل أن النظام الجديد سيبني مجتمعاً حديثاً ليحل محل الملكية التي خلفت الاستعمار الإيطالي الوحشي. بيد أن قسوة القذافي أحدثت ضرراً شديداً في احترام الذات داخل ليبيا، إلى أن جاءت أحداث نوفمبر 2011، العام الذي سبق عودة هشام مطر إلى بلده، لتمنح الجيل الجديد أملاً. وثمة مفارقة مأساوية في كتاب «العودة»، فكل الخطط الخاصة بإرساء الاستقرار في ليبيا، والطموحات المتواضعة لليبيين العاديين الذين التقاهم المؤلف، تبقى بعيدة المنال في ظل ما يعرف القارئ والمؤلف أنه قادم، فقد تحولت الدولة بأسرها إلى أطراف نزاع، وفي أقل من عامين، أضحت شوارع بنغازي، ميدان معركة. وبات الوضع قاتماً في ليبيا مرة أخرى. فالمليشيات المتحاربة ومرتزقة تنظيم «داعش» الإرهابي يتحاربون من أجل السيطرة على البلاد. وأغلقت الصحف التي ازدهرت في ربيع 2012، بينما يتم استهداف الصحافيين الأجانب، وهو ما يعني أن قليلين هم من يخاطرون بالكتابة عما يحدث. ومرة أخرى تواجه قصة ليبيا خطر الكتمان. وائل بدران كتاب: العودة.. الآباء والأبناء والهوة بينهم المؤلف: هشام مطر الناشر: بنجوين تاريخ النشر: 2016