إرهاب نيس يوجه لطمة أخرى في وجه وعينا الجمعي تُضاف إلى الصفعات اليومية التي يوجهها لنا الإرهاب الطائفي المقيم في العراق وسوريا واليمن وغير ما مكان في بلداننا. الإرهاب الذي ينسب نفسه للدين يضرب بقسوة ووحشية في كل مكان: من بنغلاديش وباكستان إلى أورلاندو مروراً بعشرات البلدان والمدن. دفاعنا المستميت عن أنفسنا أمام أنفسنا أصبح هشاً ومكروراً، وتكرارنا أن الذين يقومون بالإرهاب هم «شرذمة» لا تمثلنا لم يعد له تأثير حقيقي. لماذا لا تقوم «شراذم» الآخرين بما تقوم به «شراذمنا»؟ وما هي الثقافة والتعليم والمناخ الذي أنتج «شراذمنا» ودفعها لممارسة إجرام يصعب وصفه، وآخر تمثلاته اقتحام تجمعات لناس مدنيين بشاحنة ضخمة تهرسهم تحت عجلاتها! كذلك إحالتنا ما يحدث إلى أسباب خارجية وتدخلات عسكرية من قبل الآخرين، وعلى ما فيها من وجاهة وصحة، فقدت أيضاً جزءاً كبيراً من فعاليتها. فنحن لسنا الشعوب الوحيدة التي تتعرض للاضطهاد أو للظلم في العالم أو عبر التاريخ، فلماذا تأتي ردة فعلنا على الظلم بوحشية بالغة تنسي العالم بشاعة الظلم الذي نتعرض له أساساً؟ لماذا لا تكون مقاومتنا لأي ظلم شريفة ونظيفة وتتسم بالفروسية، وليست منحطة وعديمة الأخلاق ولا تنتمي إلا إلى عالم البشاعة والجبن؟ قرأت حديثاً تفاصيل عملية عسكرية أشرف عليها القائد الفلسطيني عبدالقادر الحسيني أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين، وكان هدفها نسف مبنى جريدة صهيونية كانت رأس حربة في الدعاية للمشروع الصهيوني. الحسيني أجل تنفيذ العملية من وقت لآخر كي يضمن عدم وجود أي أشخاص عند تفجير المبنى، وتم تفجيره فعلاً خلال الليل حتى لا يسقط ضحايا آدميون. هذه هي مقاومة الفروسية التي تحسب كل حساب لسقوط قتلى قد يكون منهم عمال نظافة لا ناقة ولا جمل لهم في كل القضايا الكبرى. أين ذهبت تلك المقاومة، ومن أين جاءت «المقاومة» التافهة التي تسيطر على ساحاتنا هذه الأيام ولا تستهدف إلا المدنيين، وتمارس جبناً أرنبياً عندما تواجه عدوها وجهاً لوجه؟ لم يعد أمامنا إلا مواجهة الحقائق والأسئلة البشعة كما هي من دون مواربة ومن دون تسويغ أو تهرب، لأن مثل هذه المواجهة هي التشخيص الذي لابد منه إن أردنا التخلص من سكين الإرهاب الذي يحز رقاب مجتمعاتنا وثقافتنا وضميرنا الجمعي وصورتنا أمام أنفسنا والعالم. المساحة هنا لا تتيح إلا التأمل في سؤالين من هذه الأسئلة: أولاً: هل الضغوط الخارجية والتدخلات العسكرية والاحتلالات تسوغ الانحدار إلى الإرهاب بكل صوره؟ يجب أن يكون جوابنا الجمعي على ذلك: لا كبيرة، لأسباب أخلاقية وأسباب براغماتية أيضاً. أخلاقياً، يقودنا استخدام نفس أساليب المعتدي حتى لو كان متوحشاً إلى آخر مدى إلى التورط في مشاركته التوحش وفقدان تفوق ميزان القوى الأخلاقي الذي تتسم به أية قضية عادلة. والتفوق الأخلاقي للقضية العادلة هو جوهر قوتها وبقائها والتفاف الناس حولها، سواء أصحابها أنفسهم أو المتضامنين معهم. والتورط في التوحش يفتت الإجماع على عدالة القضية ويبعثر المناصرين من حولها، بل يعمل على إحداث الانقسام في صفوف أصحاب القضية ذاتهم. كلما تمسكت القضية العادلة بالفروسية والنبل في مقاومتها التوحش ازدادت قوة وبهاءً، وظلت عدالتها سيفاً مصلتاً على رقبة المعتدي المتوحش. هذا كان درس المقاومات النبيلة من غاندي إلى مانديلا، مروراً بعمر المختار وعبد القادر الحسيني. براغماتياً، حتى لو تم ضرب كل المسألة الأخلاقية عرض الحائط واعتبارها تنظيراً مثالياً لا علاقة له بالسياسة الواقعية، فإن التجربة التي خضناها في مساحات جغرافية وزمنية عريضة تؤكد فشل التوحش والإرهاب وحتى المقاومة التي لم تلتزم بالحفاظ على تفوق الميزان الأخلاقي في تحقيق أي مُنجز على الأرض. هوس بن لادن والظواهري في تفجير البرجين في نيويورك لم يهزم أميركا، بل قدم لها أفغانستان والعراق تعويضاً عن ذلك. في العراق أنجزت «مقاومة» الزرقاوي وقاعدته للاحتلال الأميركي عبر الإرهاب وتبنى استراتيجية «استهداف الشيعة حتى ينتبه السنة إلى المؤامرة» كوارث عدة: تكريس الوجود الأميركي وإطالة زمنه، إطلاق جنون الطائفية في العراق وتصديرها (بالتحالف غير المقدس مع سياسة إيرانية شبيهة)، تقسيم العراق وشرذمته، وتوطين الإرهاب في قلب العالم العربي. وفي سوريا، حافظت «مقاومة» كل من «القاعدة» و«داعش» على النظام الدموي في دمشق، وأفشلت الثورة السلمية النبيلة، وحطمت سوريا تماماً عبر تسويغ التدخلات الخارجية من «حزب الله» وإيران إلى روسيا وكل العالم. وفي فلسطين، لم تحقق حركة «حماس» وهي أقرب الحالات إلى المقاومة المعقولة بسبب انخراطها في معركة تتسم بإجماع على عدالة قضيتها أي منجز حقيقي على الأرض. استراتيجية العمليات الانتحارية التي تبنتها لسنوات عدة سوغت لإسرائيل بناء الجدار العازل، وصعدت من التضامن العالمي معها، وجرت على الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية كوارث لا تحصى. على الأرض، سعرت تلك العمليات من الهوس الأمني عند إسرائيل إلى درجة تقطيع أوصال الأرض الفلسطينية عبر الحواجز الأمنية وتحويل المدن إلى معازل منفصلة لا تتواصل مع بعضها بعضاً إلا في الحد الأدنى. وأي جردة حساب بعقل بارد لحصيلة تلك العمليات تشير إلى خلاصة كارثية. وفي خلاصة الخلاصات فإن كل ما أنجزته تلك العمليات و«مقاومتها» بنية عسكرية لـ«حماس» استخدمت لاحقاً في الصراع الداخلي وللسيطرة على قطاع غزة وإحداث انقسام رأسي أنهك فلسطين والفلسطينيين منذ عقد من الزمن. ثانياً: هل هناك علاقة للإرهاب المُنتسب للدين بالدين نفسه؟ الجواب نعم، لأن الدين أي دين تؤثر فيه التفسيرات والتأويلات التي يقدمها رجال الدين للنص المُقدس. والنص المُقدس لا يشتغل لوحده في الفراغ، بل يتم إيصاله للمتلقين والناس العاديين عبر التفسير ورجال الدين. وكل من يقول إن هذا الفعل أو ذاك لا يعبر عن الدين الحقيقي إنما ينطلق من نوايا حسنة ومدفوع بالضمير الديني، الذي سرعان ما تصدمه تفسيرات شرسه ومتطرفة من جحافل المفسرين والمتطرفين تبرر القيام بكل شيء ضد العدو: من قتله، واستحلال كل ما يملك، بل... وصولًا إلى حرقه حياً، كما بررت «داعش» فعلتها المجرمة بناءً على مقولات وتفسيرات دينية مزعومة. التفسيرات الدينية والتأويلات المنحرفة التي يمكن أن يُفهم منها أن «الشهادة» هي الانتحار الرخيص ضد مقهى هنا أو نادٍ يرتاده «الكفار»، هناك منتشرة في بعض قطاعات ثقافتنا الدينية والتعليمية والمسجدية طولاً وعرضاً وعلينا أن نواجهها. ثم ما هي النظرة المتأصلة لـ«غير المسلمين» ونحن نستمع أسبوعياً لآلاف الخطباء يدعون الله «بأن لا يبقي منهم أثراً»، ويقرأ أبناؤنا يومياً فصولًا وكتباً على مقاعد الدرس لا تؤسس إلا للنظرة الاستعلائية عليهم واحتقارهم إما صراحة أو استبطاناً. علينا أن نقر أولاً بأن قطاعات متطرفة من الثقافة المدرسية والمسجدية تؤسس لـ«داعشية كامنة»، حاسمة في نظرتها للآخر، وقاسية في أحكامها، واستقصائية في جوهرها. و«الداعشية الكامنة» هي الرأسمال الكبير والخطير الذي تعتاش عليه «الداعشية المتوحشة». والداعشية خلال العقود القليلة الماضية لم تكن مقصورة على بلد أو مجتمع أو طائفة، بل هي عابرة للبلدان والمناهج التعليمية والطوائف، فكما تستعر في أوساط «السنة» تستعر أيضاً في أوساط «الشيعة»، وتطرفها ينافس بعضها بعضاً في تحطيم مجتمعاتنا. إن مستقبل هذه المنطقة وأجيالها ومجتمعاتها مرهون باستئصال «الداعشية الكامنة» وامتلاك الشجاعة الكاملة في الإقرار بوجودها ثم التحرك لمواجهتها استراتيجياً وبطول نفس، لأن الخراب الذي تجذر بسببها من الصعب إصلاحه بسياسات قصيرة الأمد. ---------------- كاتب وأكاديمي عربي