أكتب هذه المقالة ولم يتبق من الزمن لإجراء الاستفتاء الذي سيتوجه له الناخبون في المملكة المتحدة سوى اثنتين وسبعين ساعة (مع احتساب فارق التوقيت بين تورنتو ولندن)، لتحديد مصير عضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي.. ذلك الاستفتاء الذي دعا إليه رئيس الحكومة والذي يجمع الطرفان معاً، مؤيدو الخروج من الاتحاد الأوروبي ومؤيدو البقاء فيه، على أنه استفتاء تاريخي، ولكل طرف أسبابه ومبرراته في «موقفه التاريخي» الذي ينشط في الدعوة إليه وبصورة غير مسبوقة. نتائج استطلاعات الرأي قبل عشرة أيام كانت تشير إلى أن الطرف الداعي لخروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبي، سيكتب له الفوز أمام دعاة بقائها في الاتحاد.. لكن حدث ذلك الحادث المأساوي الذي هز أركان المجتمع البريطاني بأسره، وهو حادث اغتيال النائبة العمالية الشابة «جو كوكس»، السياسية والمناضلة في ميادين الدفاع عن حقوق الإنسان والملتزمة بقضايا الشعوب المقهورة في كل مكان، والتي كان لها اهتمام صادق بقضايا السودان خاصة، وصداقة معه مبرأة من المنافع والمكاسب الدعائية، كما يفعل بعض نجوم السينما الأميركية، والذين تراجع الكثير منهم، بينما واصلت النائبة الشابة مطالباتها بالسلام في السودان وبتقديم العون الطبي والغذائي للمحتاجين وضحايا الحرب فيه. كانت كوكس نجمة صاعدة في الحياة السياسية والبرلمانية البريطانية، وكما قال عنها أحد زملائها في مجلس العموم البريطاني، فإنها كانت إنسانة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لذلك فقد هز اغتيالها أركان المجتمع البريطاني، خاصة عندما اتضح أن القاتل كان مهووساً بالدعوة لخروج المملكة من الاتحاد الأوروبي. الآن والناخبون البريطانيون يتجهون إلى صناديق الاقتراع، تغيرت الصورة تماماً عما كانت عليه قبل مقتل كوكس، وقد تغيرت نتائج استطلاعات الرأي بشكل يدعو للإعجاب والتعجب. وهذا أمر دعا رئيس لجنة الاستفتاء العامة (وهو شخصية بريطانية محترمة ومستقلة عن الأحزاب بحكم منصبه)، للقول أمام مكرفون الإذاعة البريطانية إنه يأمل ويرجو أن تتفق الأحزاب البريطانية الثلاثة (المحافظون والعمال والأحرار) على ميثاق وطني يحقق بقاء المملكة عضواً في الاتحاد الأوروبي، ويضمن مصالح الوطن واستقرار أوروبا وتماسكها من أجل أممها وشعوبها، ومن أجل استقرار العالم وسلامه. إن بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي لم تعد قضية داخلية تهم أهلها وأوروبا وحدهم.. رغم الملاحظات الإيجابية والسلبية الكثيرة التي ظل البريطانيون يوجهونها للاتحاد الأوروبي، ليس لهيكليته الإدارية وحسب، وإنما أيضاً للسياسات التي مارسها وتميزت أحياناً بالأنانية من قبل الدول الأوروبية النافذة في الاتحاد. وفي حسابات الداعين لبقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي أن ذلك سيحقق التوازن المطلوب بين المصالح الوطنية البريطانية والمصالح الأوروبية. والتخوف العنصري الذي يبديه الداعون لخروج المملكة من الاتحاد، حيال إمكانية قيام أوروبا بترحيل اللاجئين لديها نحو بريطانيا، هو تخوف لا يشبه الشعب البريطاني وتاريخه القريب.. فالعنصرية والاستعلاء النازي لا مكان لهما في بريطانيا، سياسةً ومجتمعاً.