زيارة هذا البلد الجميل الذي قدم لدول العالم النامية نموذجاً في التقدم والقيادة الرشيدة، تولد في الحلق مرارة إن كان الزائر عربياً وتأمل في قصة النجاح بعض الشيء. هنا تكاتف الإصرار على الاستقلال والاعتماد على النفس مع روح جماعية مُدهشة وقيادات سياسية مخلصة لوطنها قدمت مصلحته على أية أنانيات فردية، فأخرج هذه المدينة التي كانت مجرد ميناء خدمات استعمارية طيلة ثلاثة قرون من قيود التبعية، وحولها إلى شعلة من الوهج المُبهر. لم يدر بخلد السير ستامفورد رافلز الذي بنى معبر السفن سنة 1826 كجزء من النشاط الاستعماري لشركة الهند الشرقية، أن تتحول هذه النقطة القصية إلى دولة ناجزة كما هي عليه الآن. ولم يتوقع أحد أن يطوي ذلك الميناء الرث، ليفربول الشرق كما كان يُسمى، ماضياً مر به البرتغاليون والهولنديون واحتله البريطانيون واليابانيون واشتغل فيه السكان الأصليون المختلفون إثنياً ودينياً، عمال سخرة للأجانب، ثم يتحول إلى طاقة جماعية مُذهلة من العمل والإنجاز. عندما استقلت سنغافورة عن بريطانيا عام 1963 كان العديد من الاستقلالات العربية قد أُنجزت ومضى عليها بضعة عقود، بل إن دولاً مثل مصر والعراق وسوريا والمغرب والأردن كانت قد ترسخت أنظمتها واقتصاداتها، ومصر تحديداً من بينها كانت تقوم فيها جوانب نهضة واعدة من الصناعات الثقيلة إلى صناعة السينما. اليوم يصل الناتج القومي العام لهذا البلد الصغير بملايينه الخمسة والنصف (ومنهم 40% أجانب) إلى 308 مليارات دولار، متجاوزاً نظيره المصري حيث عدد السكان يفوق سنغافورة 15 ضعفاً. وتتقدم دول العالم في معايير التنمية الإنسانية سواء في التعليم أو الصحة أو انخفاض نسبة البطالة، كما تتصدر المدن الأكثر جذباً للاستثمار والكفاءات، والمستقبلة للتكنولوجيا الحديثة، إضافة إلى امتلاك الغالبية الكاسحة من السكان بيوتهم. وهناك أيضاً عبقرية السيطرة على التنوع الإثني والديني، والذي تحول إلى مصدر قوة. قائد الاستقلال وباني نهضة سنغافورة «لي كوان يو» كان من الأغلبية الصينية، لكنه رفض سيطرة الأغلبية على الأقليات وصمم على تأسيس مواطنة سنغافورية تساوي بين الأفراد. نحى أيضاً إغراء التبعية والولاء للصين الكبرى الوطن الأصلي له وللأغالبية، وانهمك مع حكومته في محاربة ذلك المنطق، منخرطاً في شكل من «الهندسة الاجتماعية» التي استهدفت تأسيس هوية سنغافورية وطنية جامعة. الترسخ التدريجي للمواطنة والإيمان الجمعي بالولاء للدولة الناشئة ودحر الولاءات المنافسة، هو الأساس المتين الذي وفر لقصة النجاح السنغافوري أن تستمر. وفي الآن ذاته اشتغل التقدم الاقتصادي والوفرة المالية، التي لم تستند إلى موارد طبيعية، بل إلى نشاط الأفراد ويقظة الحكومات وتشجيعها للاستثمار واتباع سياسات منصفة وغير محابية لأية شريحة في المجتمع، على تعميق الانتماء عند الناس وإحساسهم بالمساواة. ربما لم يكن لسنغافورة أن تنجح لو لم تمنحها الأقدار قيادة فريدة ممثلة «لي كوان يو» ورفاقه. «كوان يو» الذي كان رئيس وزرائها الأول واستمر في المنصب خلال عقود التأسيس الحساسة والمهمة، يُعتبر الأب الروحي لسنغافورة الحديثة. قراءة إرثه السياسي والفكري الذي سجله في عدة كتب أهمها مذكراته: «من العالم الثالث إلى الأول: قصة سنغافورة»، يجب أن تكون واجباً مدرسياً على كل مسؤول عربي يريد تلمس مدارك القيادة الرشيدة والناجحة. كيف نتعلم من القصة السنغافورية؟ هناك بدايات عديدة، منها استعادة قصة التاجر اليمني الناجح والشهير سيد عمر الجنيد، ابن حضرموت الذي وصل إلى سنغافورة سنة 1816. قصة الجنيد، وكما تعرضها جداريات المتحف الوطني السنغافوري، تقول بأنه كان أحد أهم التجار الذي جابوا البحر الأحمر والمحيط الهندي وصولاً إلى أرخبيل الجزر المالاوية، وممن تمتعوا بثقة الجميع استناداً إلى نسبه النبوي وحمله لقب «سيد». استقر الجنيد في سنغافورة وهناك ازدهرت تجارته الأمينة وعلاقاته الجيدة وأحبه الناس، وبنى أول جامع في سنغافورة «مسجد عمر كامبونغ ملكا» سنة 1820. إلى جانب ذلك تبرع بالأرض التي بُنيت عليها كاتدرائية سانت أندروز ومستشفى شهير إلى جوارها. الجنيد ساهم في تأسيس التعايش والمواطنة السنغافورية التي خلقت تاريخاً من الوئام ووفرت جزءاً من الأرضية التي تقوم عليها سنغافورة اليوم.