إن الإسلام دين الرحمة والإقناع (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)، وقد تعرض في تاريخه الطويل لحملات غازية قاسية، ولكنه كان يتغلب عليها بمبادئه وقيمه، وإنسانيته ورحمته، ولما تعرض العالم الإسلامي في العصر الحديث لغزو خارجي في أكثر مناطقه وأفرز ذلك الدولة الوطنية التي أصبحت سمةً من سمات القرن العشرين، تحركت بعض التيارات الإسلامية، التي تسير في فلك الدولة الوطنية من جانب، وتعمل طبقاً لقوانينها وتخفي جانباً آخر، وبدأت تشحن الناس بالعواطف الدينية المتأججة لإقامة الدولة الكونية أو الخلافة الإسلامية في زعمها، ووضعت نصوص القرآن الكريم، والسُنة النبوية في غير موضعها، وجعلت من المجتمع الإسلامي فرقاً وشيعاً، وكفرت المسلمين، ورأت في نفسها وجماعتها القليلة المحدودة الإسلام الصحيح، وفي غيرها الردّة والخروج من الدين، وقد بدأ هذا بالبذور الفكرية في تنزيل آيات القرآن الكريم والأحاديث على هذه المعاني التي لم يعرفها علماء المسلمين في تاريخ الإسلام الطويل، منذ أن طويت صفحة الخوارج التي لم تصل إلى هذا المستوى، وقد بدأ ذلك مع سيد قطب – ولم يكن من علماء الدين – حين أقحم نفسه في تفسير القرآن الكريم، وبدأ يُؤصِّل للعنف ويشحن به جماعته – جماعة «الإخوان المسلمين» الإرهابية – التي كانت تتبنى ما يكتبه وتجعله من مرجعياتها. وفي وسط مجموعة من الإحباطات كانت تترسخ مفاهيم العنف هذه في قلوب الشباب، وإن من يقرأ في كتابه (في ظلال القرآن) يجده كأنه يصف واقع (داعش) الآن، وإليك بعض النصوص أقتبسها من تفسيره لسورة الأنفال، يقول: (إن حقيقة الإيمان يجب أن يُنظر إليها بالجد وخاصة في قلوب العصبة المؤمنة التي تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع التي غلبت عليها الجاهلية، وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة)، ويفيد هذا النص أنه لم ينج من الجاهلية إلا هو وجماعته. هذا الكلام أين يضع مئات الملايين من المسلمين الذين يشهدون لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة؟! هذا الكلام تأصيل لتكفير المسلمين، والتكفير له تداعياته، ومنها أن دماءهم حلال وأموالهم حلال وأعراضهم كذلك، وهذا ما يفسر لك العدوان والقتل للناس بهذه الأفكار الضالة وأمثالها. ويزداد الأمر وضوحاً حين يدعو أتباعه لممارسة الرعب بأقسى صوره وأشكاله فيقول: (إنها طبيعة هذا المنهج الذي يجب أن تستقر صورته في قلوب العصبة المسلمة إن هذا الدين لا بد له من هيبة ولابدّ له من قوة، ولابدّ له من سطوة ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمدّ الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير الإنسان في الأرض من كل طاغوت، والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين). هل هذا الذي تفعله (داعش) اليوم يزيد على هذا من سفك وقتل وفوضى وتدمير! من هذا المخزون يأخذون، وإليه في تفسير الدين يرجعون وأعلام الإسلام ومجتهدوه خلال أربعة عشر قرناً من الزمان كانوا على الخطأ في نظره ونظر أتباعه وهم على صواب! اللهم إن هذا منكر من القول وزور وبهتان على الشريعة المحمدية. ويقول: (إنما يعتبر الناس مسلمين حين يتمون حلقات السلسلة أي حين يضمون إلى الاعتقاد والشعائر إفراد الله سبحانه بالحاكمية ورفضهم الاعتراف بشرعية حكم أو قانون أو وضع أو قيمة أو تقليد لم يصدر عن الله وحده، ثم أن يتجمع هؤلاء الذين يشهدون أن لا إله إلا الله على هذا النحو، وبهذا المدلول في تجمع حركي بقيادة مسلحة، وينسلخوا من التجمع الجاهلي وقيادته الجاهلية)، هذه الأفكار التي شُحنت بها عقول الشباب تناسل منها وخرج من عباءتها مجموعات إرهابية وعنيفة قامت بالقتل والاغتيالات في مصر وغيرها كجماعة التكفير والهجرة، وغيرها لتصل إلى «القاعدة»، ثم إلى التوحيد والجهاد التي أعلن زعيمها الزرقاوي (أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تسترد عظمتها إلا بتطهير نفسها من المنافقين والكفار والعلمانيين والمعتدلين السنة، وأبناء الطوائف الأخرى...)، ثم إلى تنظيم (داعش) الذي أعلن أساليبه الإرهابية العنيفة، ودعا لها ووصل إلى مرحلة سماها منظروه (التوحّش)، وهذه القسوة غير المسبوقة وقد جعلها استراتيجية وخطةً وتطبيقاً، مما جعل صورة الإسلام والمسلمين صورة الوحش الذي لا يرحم. إننا باستعراض العقود الماضية من السنين والتطورات التي حصلت فيها نجد أن فكرة العنف والإرهاب قد انطلقت من جماعة «الإخوان المسلمين»، ولم يكن أولها التنظيم السري والاغتيالات التي قام بها بل تناسلت منه تنظيمات كثيرة وخطيرة حتى أصبح المسلمون اليوم أمام ظاهرة دموية لم تكن في تاريخهم، ولا يدرون أين تسير بهم هذه الأفكار الضالة. وإذا كانت إعادة الأمن إلى النفوس والأوطان التي تتهاوى أمام الإرهاب بأنواعه مطلباً مستعجلاً، فإن ذلك يبدأ بكشف الأفكار التي تؤصِّل لهذا الإرهاب ثم باجتثاثها من جذورها، وإعادة المفهوم الصحيح المشرق للدين الإسلامي، وترسيخ أسباب التعايش وبناء الوطن الآمن والعيش الكريم للمواطنين.