محاولة الحزب «الجمهوري» للتعامل مع دونالد ترامب على أنه مرشح سياسي محتمل عادي، ستغدو مضحكة، إن لم تكن خطرة للغاية على «الجمهوريين»، إلا إذا قام بالتعبير عن المبادئ «المحافظة» للحزب، فحينها سيكون كل شيء على ما يرام. ولكن ظاهرة ترامب برمتها، ليس لها علاقة بالسياسة أو بالأيدولوجية، ولا بالحزب «الجمهوري»، إلا من حيث دوره التاريخي كحاضنة لهذا التهديد الفريد لنظامنا الديمقراطي الذي يمثله شخص مثل ترامب، الذي تعالى على الحزب الذي قدمه، ولم يعد جيش مؤيديه، المتنامي من حيث العدد، يأبه بالحزب من قريب أو بعيد، وإنما بات ولاؤه له وحده. ولكن ما مصدر هذا الولاء؟ من المؤكد أن مصدره ليس هو الوصفات الاقتصادية العلاجية التي يقدمها ترامب بصفته رجل أعمال ذائع الصيت، لأن اقتراحاته – ببساطة- تتغير بشكل يومي. إن مصدر هذا الولاء في رأيي هو الموقف الذي يتخذه ترامب، وما يحيط به نفسه من هالة القوة المفرطة، والرجولة، وما يظهره من عدم احترام متبجح بتفاصيل الثقافة الديمقراطية. وتصريحات وبيانات ترامب غير المتماسكة والمتناقضة يجمع بينها شيء واحد مشترك، هو أنها تلعب على مشاعر السخط والازدراء، الممزوج بقدر من الخوف، والكراهية، والغضب. فمفردات خطابه العمومي تركز في معظمها على الهجوم والسخرية من طائفة واسعة من «الآخرين» - المسلمين أو الهيسبانيك، أو النساء، أو الصينيين، أو المكسيكيين أو الأوربيين، أو العرب، أو المهاجرين. أما برنامجه فيتشكل أساساً، من وعود بتبني سياسات صارمة تجاه الأجانب أو الأشخاص الذين لا يحملون ملامح بيضاء، والذين سيعمل على إبعادهم، ومنعهم من دخول أميركا، وحملهم على الإذعان، أو جعلهم يدفعون الثمن، أو يغلقون أفواههم. ترامب ببساطة رجل مهووس بذاته بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. ولكن الظاهرة التي خلقها، والتي يتولى زمام قيادتها الآن، غدت شيئاً أكبر منه، وأكثر خطورة مما قد يعتقد كثيرون. إن ظاهرة ترامب تمثل تهديداً للحرية، شبيهاً بالتهديد الذي حذر منه «أليكسيس دو توكفيل»، المؤرخ والمنظر الفرنسي، وطائقة من الفلاسفة القدامي، ومؤداه أن الناس الذين يعيشون في ظل نظام ديمقراطي، يمكن، إذا استبد بهم القلق والغضب، وباتوا غير مقيدين، أن ينقلبوا على أي شيء، حتى على المؤسسات التي وجدت من أجل المحافظة على حرياتهم. وهذه الظاهرة ظهرت في دول ديمقراطية وشبه ديمقراطية أخرى خلال القرن الماضي، وكان يطلق عليها، بشكل عام، «الفاشية». والحركات الفاشية، لم يكن لديها إيديولوجية، ولا مجموعة واضحة من الوصفات، لعلاج أمراض المجتمع. فالفاشية في إيطاليا على سبيل المثال، كانت ضد الليبرالية، وضد الديمقراطية، وضد الماركسية، وضد الرأسمالية، وضد الدين. والفاشية الناجحة لم يكن لها شأن بالسياسات وإنما كانت تتعلق بالرجل القوي.. بالقائد، سواء كان لقبه «الدوتشي» أو «الفوهرر»، والذي يعهد إليه بالعناية بمصير الأمة، والقادر على حل أي مشكلة مهما كانت، ومواجهة ودحر أي تهديد خارجي أو داخلي، ولم يكن من الضروري بالنسبة له أن يشرح كيف يمكن له القيام بكل ذلك. ولفهم الكيفية التي يمكن أن تسيطر بها هذه الحركات الفاشية على دولة ديمقراطية ما، ما علينا سوى أن ننظر إلى أحوال الحزب «الجمهوري» اليوم. فهذه الحركات تلعب على مشاعر الخوف كافة، والزهو، والطموح، وعدم الأمان التي تُكوِّن النفسية الإنسانية في المجمل. وفي الديمقراطيات، وكما هو معروف- بالنسبة للسياسيين على أقل تقدير- فإن ما يهم هو الشيء الذي يقول الناخبون إنهم يريدونه. ومن هنا تكتسب الحركة السياسية الجماهيرية قوتها، وتغدو في نظر من يعارضونها سلاحاً مخيفاً. وعندما يتم التحكم في تلك القوة وتوجيهها بوساطة قائد واحد، فإنه يمكن توجيهها تجاه أي شخص يريد هذا القائد أن يوجهها إليه. فإذا قام أي شخص بانتقاد القائد أو معارضته، فلا يهم في هذه الحال مدى ما يتمتع به مثل هذا الشخص من شعبية واسعة أو إعجاب كبير. فمثل هذه الأشياء لا تهم. فقد يكون هذا الرجل بطلاً حربياً، ولكن إذا قرر القائد أن يسخر منه ويستهزأ ببطولته، فإن الأتباع سيضحكون ويستهزئون منه بدورهم. وقد يكون هذا الرجل منتخباً، وأكبر مدافع عن مبادئ الحزب من حيث الرتبة، ولكن ذلك كله لن يشفع له إذا تردد للحظة في دعم القائد، بل هناك احتمال أن يواجه الموت السياسي. هذه هي الطريقة التي يمكن بها للفاشية أن تأتي إلى دولة ديمقراطية مثل أميركا: ليس بالأحذية العسكرية، أوالتحيات (على الرغم من أنه كانت هناك تحيات، ونفحة من العنف)، وإنما عبر مندوب دعاية تلفزيوني، أو بليونير زائف، أو شخص مهووس بذاته «يغترف» من مشاعر السخط الشعبي، ومن إحساس الناس بعدم الأمان. ومع وجود حزب سياسي وطني- فاقد للطموح أو انطلاقاً من ولاء حزبي أعمى، أو ببساطة شديدة بدافع الخوف وحده يسارع هؤلاء الناس عادة بالوقوف في الصف خلف مثل هذا الشخص. *زميل رفيع المستوى في معهد بروكنجز، وعضو سابق في هيئة تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»