في الوقت الذي ينشغل فيه المترشحون «الجمهوريون» و«الديمقراطيون» في الصراع، وتحسين المواقف، والتباهي بالقدرة على شق طريقهم عبر المراحل المبكرة من الانتخابات الرئاسية لهذا العام، يمكن لنا القول من دون افتئات إن لا أحد منهم، سيلفت انتباه الناخبين إلى كتاب جديد مهم، يقول الكثير عن مستقبل أميركا. يرجع هذا لأسباب منها على سبيل المثال لا الحصر: أولًا، أن لا أحد منهم لديه الوقت لقراءة كتب في هذه الأيام التي يحتدم فيها الصراع الانتخابي، (هذا إذا افترضنا جدلاً أن قراءة الكتب الجادة يندرج ضمن هواياتهم). وثانياً، أن الكتاب المقصود، هو كتاب يتحدى أي ادعاء لسياسي، وكل علاج لخبير، بشأن الكيفية التي يمكن من خلالها دفع الاقتصاد الأميركي الباهت للازدهار مجدداً في العقود المقبلة، كما فعل ذات مرة منذ نصف قرن أو نصف قرن ونيف. ربما ترجع صعوبة ذلك، إلى حقيقة أن العهد الذي شهد توسع الاقتصاد الأميركي لمستويات غير مسبوقة، «ربما يكون لحد كبير» عهداً يأتي لمرة واحدة ولا يتكرر»، كما يذهب إلى ذلك كثيرون، أو ربما يكون مجرد توافق مع الظروف التاريخية السائدة في تلك الفترة، بمعنى أنه كان فصلاً تاريخياً فريداً هو الآخر. وهكذا يمكن القول إنه حتى إذا كان بمقدورنا النمو مرة أخرى، فإن ذلك النمو لن يكون أبداً بتلك الوتيرة التي كان عليها النمو الذي تم في الماضي، وهي حقيقة نجد جميعاً صعوبة في القبول بها. طفرة الأربعينيات والكتاب المقصود عبارة عن مجلد ضخم مكون من 762 صفحة مليئة بالمعلومات وعنوانه:«صعود وهبوط النمو الأميركي» ومؤلفه هو «روبرت جيه. جوردون» أستاذ الاقتصاد بجامعة «نورث ويسترن» الأميركية، والذي يعد هذا الكتاب تتويجاً لجهوده البحثية التي تواصلت على مدى سنوات عديدة، لإيجاد إجابة عن السؤال الاقتصادي الرئيسي لعصرنا وهو:« ما هو السبب في أن الاقتصاد الأميركي لم يتمكن أبداً من العودة إلى سنوات الازدهار السعيدة التي شهدها زمن أجدادنا؟».. وما هو السبب في أن معدل نمو الإنتاجية السنوي في عهد الإدارات الأميركية المتتالية، عقدًا بعد عقد، قد تراوح ما بين نصف إلى ثلث معدل الإنتاجية في عهد إدارتي ترومان وأيزنهاور؟، أو بتعبير آخر، إذا ما كان النمو المتواضع هو الوضع الطبيعي لدينا، فما هو الشيء الذي كان مختلفاً في ذلك العهد الذي تحقق فيه الازدهار الكبير؟ إذا ما كان لدى أي أحد شك في هذه الحقيقة، فما عليه سوى أن يدرس بعناية أهم رسم بياني في كتاب جوردون، وهو الرسم الذي يبين«نمو إنتاجية العوامل الكلية في الاقتصاد الأميركي خلال الفترة من 1900 إلى 2012». ومع أن مصطلح «إنتاجية العوامل الكلية» مصطلح فني في الأساس، لكنه يعتبر من قبل الكثير من الاقتصاديين، أفضل طريقة فردية لتحديد معدل النمو الحقيقي للإنتاجية في دولة ما، لأنه يستبعد عوامل مثل التضخم أو قوة العمل الأكبر. ويعكس هذا الرسم البياني المرسوم بطريقة لافتة للنظر، النمو الذي شهدته أميركا في تلك السنوات الرائعة الممتدة من عقد الأربعينيات في القرن الماضي، وحتى السنوات المبكرة من عقد الستينيات، عندما كانت الأحوال تمضي من حسن إلى الأحسن، بالنسبة لمعظم الأميركيين، الذين عاشوا في تلك الفترة الزمنية. كانت هناك سيارات جديدة لامعة متاحة لملايين العائلات للمرة الأولى، وكانت هناك أيضاً أجهزة وأدوات جديدة، ومساكن جديدة، وسفريات طيران جديدة، ودور سينما جديدة. وكان هناك إلى جانب ذلك العديد من الاختراعات، والبضائع الاستهلاكية المصنوعة من مواد خام جديدة، متاحة في ذلك الوقت، وجاهزة للانتقال إلى منازل عصرية أكبر حجماً. اقتصاد الحرب وعلى الرغم من أن كل هذه الأشياء كانت محركاً لجزء كبير من نمو الإنتاجية، فإنه كان هناك محرك آخر مذهل، هو الحرب العالمية الثانية، التي خصصت أميركا من أجلها 43 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي. لكي نفهم تأثير تلك الحرب على ذلك النمو، يكفي أن نعرف أنه في عام 1944 وحده، أنتجت المصانع الحربية الأميركية، عدداً مذهلاً من الطائرات هو 96 ألف طائرة عسكرية، وهو ما تطلب كميات غير مسبوقة من المواد الخام، والعمالة الماهرة، ووفر أعداداً هائلة من الوظائف ذات الأجر المرتفع. إذا ما أدمجنا تلك العوامل معاً، يمكن لنا القول إن الحافز العسكري زمن الحرب العالمية الثانية، وذلك الازدهار الاستهلاكي المدهش والمبهر، الذي نجحت أفلام هوليوود في خمسينيات القرن الماضي نجاحاً فائقاً في اقتناصه وعرضه، قد وفرا تلك «الطفرة» التي نراها في منتصف المنحنى الواضح في رسم جوردون البياني. ولكن ما حدث على الرغم من ذلك هو أن ذلك الازدهار لم يكن قابلاً للاستدامة بعد السنوات المبكرة من الستينيات حيث لم يكن هناك في ذلك الوقت حرب عظمى، كما لم تتمكن التقنيات التي ظهرت فيما بعد، بما في ذلك تقنية الإنترنت، التي ظهرت في تسعينيات القرن الماضي، من تغيير إنتاجية العوامل الكلية، بتلك الطريقة المستدامة التي حدثت في الفترة المزدهرة المشار إليها. لذلك ربما تكون تجربة أجدادنا، كما يملح إلى ذلك بعض العلماء الآن، من إنتاج عصر تاريخي غير قابل بالفعل للتكرار. الشيء اللافت للنظر أن رسم جوردون البياني، والمقسم إلى عقود زمنية متوالية، يبدو أيضاً شبيها بنمط تاريخي آخر من النمو الاقتصادي الكبير في دولة أخرى، من حيث التسارع المثير للإعجاب في النمو لبعض العقود، ثم التداعي بعد ذلك. والدولة التي أقصدها بكلامي هي بريطانيا في العصر الفيكتوري. ففي تلك الدولة أيضاً، كان هناك- على نفس المنوال- عدد كبير من التقنيات الجديدة، والسلع الاستهلاكية المرتبطة بالثورة الصناعية، والتي تزامنت مع تحولات هائلة في المشهد العام(عصر السكك الحديدية، بالإضافة لعمليات التطوير الحضري واسعة النطاق)، وانفجار صناعات النسيج الموجهة للتصدير، والتي كانت توظف ملايين العمال. ولكن الذي حدث بعد عقد السبعينيات من القرن التاسع عشر، وحتى مع مقدم الصناعات الكيماوية والكهربائية الأحدث، هو أن الوتيرة السريعة لنمو الإنتاجية، قد تباطأت لحد ما. النموذج البريطاني وربما يكون التباطؤ الاقتصادي الغامض الذي حدث في بريطانيا الإدواردية (نسبة إلى الملك إدوارد السابع)، والذي يتجادل المؤرخون بشأنه، لم يكن غامضاً بالدرجة التي كان يبدو عليها، وذلك بشرط الاقتناع بفكرة أن كل ما هنالك هو أن اقتصاد تلك الدولة قد تمتع بازدهار حدث لمرة واحدة، ولم يتكرر بعدها. ومن يدري، فربما تكون هناك دول أخرى تمتعت بنمو استثنائي وغير متكرر، قبل أن يتراجع هذا النمو تدريجيا بعد ذلك (ربما يكون ذلك قد حدث للصين على وجه التحديد خلال السنوات الأربع الماضية). مهما كانت التبريرات بشأن الحالات الأخرى، فإن حجة جوردون، إذا ما قُبلت، تمثل ما في ذلك شك، خبراً غير سار لأميركا. ولكن السؤال هو: هل ستُقبل هذه الحجة حقاً؟ العلماء الثقات مثل البروفيسور «جويل موكير»، زميل جوردون في جامعة نورث ويسترن، على سبيل المثال لا الحصر، يشكّون أن ثورة تقنية المعلومات، التي يشهدها عصرنا، بالإضافة إلى الابتكارات في علم المواد، وتقنية النانو، وأبحاث الطاقة، وغيرها من المجالات العصرية المتطورة، يمكن أن تنتج قفزة أخرى في الإنتاجية الاقتصادية. ربما يحدث هذا، ولكن السؤال هنا هو: هل أن أي من هذه الأشياء يمتلك الدافع أو المحرك الذي وفرته الحرب العالمية الثانية، أو وفره عصر السكك الحديدية؟ ويجب التأكيد في هذا المقام على أن البروفيسور جوردون لا يقول إن النمو قد اختفى بالكلية، أو أن الإبداع قد هجر الشعب الأميركي. أفق النمو ففي المستقبل، كما في الماضي، هناك أنواع معينة من الناس(مخترعون ومستثمرون) سيصبحون أثرياء، ولكن النمو المرتفع المستدام في العقود المقبلة، ربما يكون أقل احتمالاً بكثير مع ذلك. يرجع ذلك لأسباب منها أن سكان أميركا يشيخون، وبنيتها الأساسية تشيخ هي الأخرى، ومستويات ديونها مرتفعة بدرجة مخيفة، ومعدلات ادخارها منخفضة في جميع الحالات. لذلك، إذا لم تكن هناك تقنيات جديدة، ولا حتى طاقة شمسية فائقة الرٍخصْ، تستطيع تعزيز الإنتاجية بدرجة تكفي لجعل الغالبية العظمى من العائلات الأميركية، تتمتع بارتفاعات حقيقية في مستويات معيشتها عاماً بعد عام، فإن النمو المتواضع الذي نشهده حالياً، سيستمر على الأغلب في مستقبلنا. ويمثل هذا استنتاجاً قاسياً قد يصعب على أي مجتمع القبول به، وخصوصاً المجتمع الأميركي، في هذه اللحظة من الزمن. الانتخابات ووعود الازدهار يعيدنا هذا مرة أخرى للحملة الانتخابية الجارية حالياً، وإلى مزاعم وادعاءات المترشحين المتنافسين فيها. فالحقيقة التي لا مراء فيها بالنسبة لتلك الحملة وهؤلاء المرشحين، أنه لا يوجد لديهم ما يمكن أن يقدموه، سواء كان ذلك في صورة خفض للضرائب، أو إجراء تقليص كبير للإنفاق الحكومي، أو مضاعفة للضمان الاجتماعي، أو أي وصفة من تلك الوصفات المألوفة التي نسمع عنها أيام الانتخابات عادة، والتي لا يوجد لديها أدنى فرصة لإعادة الأمة الأميركية إلى ذلك العهد التاريخي من الازدهار الاقتصادي الباهر. وهذا الاستنتاج الصادم، إذا ما كان صحيحاً، قد يكون الحقيقة السياسة الوحيدة الأكثر أهمية من غيرها، بالنسبة لمستقبل الأمة الأميركية، بصرف النظر عن هوية المرشح الذي سيصبح رئيساً للولايات المتحدة العام المقبل. _ _ _ __ _ _ _ _ *أستاذ التاريخ بجامعة يل ينشر بترتيب خاص مع خدمة«تربيون نيوز سيرفس»