أميركا وكوبا.. وعجائب التحول
بعد أيام سيزور الرئيس الأميركي كوبا آخر، القلاع الثَّورية، وقيل إنها أول زيارة منذ 1928. ومَن يطلع على العداوة التاريخية بين البلدين يأخذه العجب العجاب، فبعد نجاح الثَّورة الكوبية (1959) وتحول كوبا إلى صف المعسكر الاشتراكي، أُعلن عن عدة محاولات لاغتيال فيدل كاسترو، وتنظيم المعارضة الكوبية للهجوم على هافانا، وكادت أزمة خليج الخنازير أو الصواريخ النووية السوفييتية (1962) تشعل حرباً عالمية ثالثة، ولأنها نووية تحرق الجميع انتهت بسحب الصواريخ وتعهد أميركا بعدم غزو كوبا، مع احتفاظها بقاعدة غوانتانامو التي استأجرتها (1903) من الحكومة الكوبية آنذاك، وقد ذاع صيتها بتحولها إلى معتقل لعناصر «القاعدة» بعد 11 سبتمبر 2001.
ظلت كوبا في ذاكرتنا «جزيرة الحرية»، مقابل معقل الإمبريالية، ولم نفكر فيها دون وجود كاسترو رئيساً لها منذ 1959 ثم أخوه راؤول الذي تسلم منه مقاليد الحكم عام 2008. أتذكر أن القيادي في الحزب الشّيوعي العراقي، عامر عبدالله (ت 2000)، أصدر كتاباً تحت هذا العنوان «جزيرة الحرية» عن كوبا مما رسخ في أذهاننا أنها جزيرة الحرية قولاً وفعلاً، وكان كاسترو وجيفارا (قُتل 1967) ملهمين تقاس بهما الثورية، حتى أن أحد الشُّعراء اللبنانيين كان يطل مِن على شاشة التلفزيون العراقي مادحاً الرئيس ونائبه آنذاك، ومما قاله في أحمد حسن البكر (ت 1982): «إن تكن كوبا بكاسترو تفاخرنا/ فأحمد العرب كاسترو وجيفارا».
ومن العجب لهذه الدولة الفقيرة الصغيرة أن تتسع إمكانياتها وتقاليدها الثورية إلى أفريقيا وآسيا، تدعم ثوراتها المسلحة بالخبراء والسلاح، وتقدم مساعداتها في مختلف الشؤون بلا مقابل. وأن كل الخطباء الفلسطينيين والثوريين عامة أخذوا يقلدون حماسة وحركات كاسترو على منبر الخطابة، والتي توقفت بعد تقدمه في العُمر، وإذا حضر اسم كاسترو أوجيفارا حضرت الثورة وهزيمة الإمبريالية الأميركية. ولا غرابة أن يُرثى جيفارا، حال إذاعة نبأ مقتله (9/10/1967)، مِن أهوار الجنوب العراقي القصية، على لسان الشَّاعر الشَّعبي مجيد جاسم الخيُّون في قصيدته، التي أشتهرت آنذاك «علم ثوار جيفارا»، ومنها «الحزن عم العراق، وصل لهواره، علم ثوار جيفارا، اسمعي الصوت يمريكا فلسطين ألف جيفارا..»!
حاولت كوبا الاعتراض على سياسة غورباتشوف، والتي أسفرت عن سقوط المعسكر الاشتراكي، واحتفظت باشتراكيتها، وما بينها وبين قلعة الإمبريالية إلا «شمرة عصا»، فالبنسبة للأميركيين لم تعد كوبا خطرة بعد الانهيار الاشتراكي. كان آنذاك لا يُسمح حتى في التفكير حول زيارة رئيس أميركي لهافانا، طالما سمعنا كلمة لكاسترو مختصراً بها ما كان بين كوبا وأميركا: «كانت هافانا مبغاً للأميركان».
لم يتغير شيء في السياسة الأميركية، ظلت على ما هي عليه خلال الحرب الباردة وما بعدها، فهي تتدخل بالمكان الذي يعجبها، وليس هناك مَن يشعل أزمة معها، أو يهدد بحرب ضدها، وما زالت تلعب على ملف حقوق الإنسان، وقد قرأنا تصريحات للأميركيين عن زيارة الرئيس أوباما لهافانا بأنه سيفتح ملف هذه الحقوق، فعلى الرغم من التغيرات العالمية ظلت كوبا تُحكم بثوار (1959). وحقوق الإنسان ملف مغرٍ للشعوب ولا مندوحة مِن حصول الكوبيين على حق التعبير والانتخاب، وهذا ما أشهرته السياسة الأميركية بوجه الاتحاد السوفييتي، ونجحت فيه.
لكنها، أي أميركا، لها سوابق بقمع اختيارت الشعوب، ولا أفجع من تدبير الانقلاب العسكري ضد حكومة تشيلي المنتخبة (سبتمر 1973)، فقد كان سلفادور الليندي (قُتل 1973) منتخباً بالأغلبية، لكنها وبعد شعورها بسياسات تشيلية جديدة فزعت لإسقاطه عن طريق الجنرالات، فهي إذ تؤيد وتبارك الانتخاب بكوبا تقف ضدها بتشيلي. إنها تؤيد وتدعم الحرية، لكن بشروطها. فلم تر في تأييدها للانقلاب على رئيس منتخب حرجاً، الانقلاب الذي أسفر عن مقاتل رهيبة، سقط فيها شعراء وفنانون.
لا نظن أن أميركا ترغب باستبدال الحكم بهافانا، وقد زالت مبررات العداء معه، ومعلوم أن العلاقة مع المهزوم أفضل من مجهول يأتي بانتخابات شرعية، قد يكون ضدها، كما هو الحال مع التجربة التشِّيلية. لقد صارت التجربة الكوبية الثَّورية مثالاً يُقتدى به حتى من قِبل الإسلاميين، بينما خفت الوهج الثوري لهافانا نفسها. إنها عجيبة مِن العجائب أن تستعد كوبا لإطفاء عداوة ستة عقود، ومَن عاش زمنها يتعجب مما يحدث، وكأن لسان حال الأخوين كاسترو ينشد لأبي الطَّيب (اغتيل 354هـ): «ومن نَكَدِ الدّنْيا على الحُرّ أنْ يَرَى/عَدُوّاً لَهُ ما من صَداقَتِهِ بُدُّ». بطي صفحة الثورة الكوبية، وتحول العدو إلى صديق، تتحقق عجيبة مِن العجائب. رحم الله حبيب الطَّائي (ت 231هـ): «على أنَّها الأيامُ قد صرنَ كلَّها/ عجائبَ حتى ليسَ فيها عجائب»!