منذ نهاية الحرب العالمية الثانية نجح المواطنون والزعماء الألمان على مر العقود في اكتساب احترام العالم وتقديره، بفضل المواقف الأخلاقية والسياسية المشرّفة التي كانوا يتبنونها. فمن سياسة تحسين العلاقات مع أوروبا الشرقية التي بدأها المستشار ويلي براندت، إلى إعادة توحيد بلدهم المقسّم، بشكل ناجح وسلمي، في عام 1990، إلى ترحيب المستشارة أنجيلا ميركل باللاجئين السوريين في 2015.. كان الألمان دائماً يضعون المعايير التي تثير إعجاب بقية العالم. لكن، لماذا يريدون الآن المجازفة بتلك السمعة التي اكتسبوها بجهد ومشقة من أجل ما تبدو صفقة خط أنابيب غاز فاسدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خاصة أن التحولات الكبيرة التي عرفتها أسواق الطاقة العالمية خلال العام الماضي تغني عن الصفقة الروسية وتجعلها قديمة ومتجاوَزة، بل ومضرة للوحدة الأوروبية؟ ولماذا لا تقوم إدارة أوباما بما يكفي لثني ميركل عن المضي قدماً في تنفيذ هدفها؟ الأمر يبدو غير منطقي، لكن هدف بوتين واضح لا لبس فيه. فهو يريد ضمان عائدات لشركته «غازبروم» مع العمل على تكريس اعتماد أوروبا الغربية على الغاز الروسي وكبح قدرة أوكرانيا على مقاومة حملته المترنحة هناك والرامية لزعزعة الاستقرار. ومع ذلك، فميركل مستمرة في وصف خط أنابيب «نورد ستريم 2» على أنه «مشروع تجاري» منطقي من الناحية الاقتصادية. «لكنه ليس كذلك»، يؤكد أندرز آسلند من مركز «المجلس الأطلسي» في واشنطن. ذلك أن «استهلاك الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي انخفض بنسبة 21? خلال العقد الماضي، وخط أنابيب غازبروم الحالي تحت بحر البلطيق يشتغل الآن بنصف طاقته الإنتاجية فقط. وفضلا عن ذلك، فـ(غازبروم) ليست شركة عادية مملوكة للدولة، بل هي مسخّرة لتحقيق أهداف روسيا الجيوسياسية، حيث تقوم بتقليص الإمدادات أو رفع الأسعار عندما يريد الكريملن ذلك». آراء آسلند، وهو عالم اقتصاد سويدي لديه تجربة طويلة في روسيا وأوكرانيا، يدعمها ويؤكدها منصب جيرهارد شرويدر كرئيس لمجلس المدراء في فرع «نورد ستريم» التابع لـ«غازبروم». شرويدر كان قد وقع الاتفاق الأولي العزيز على قلبه مع بوتين من أجل خط أنابيب «نورد ستريم 1» في 2005، قبل وقت قصير على هزيمته على يد ميركل في الانتخابات. ووفق مصدر مطلع، فإن المفاوضات مع بوتين حول المشروع لم تبدأ إلا في أيامه الأخيرة كمستشار لألمانيا. ثم إن إعلان «غازبروم» المفاجئ في يونيو الماضي عن اعتزامها إنشاء خط أنابيب آخر يلتف على أوكرانيا -التي تجني حالياً قرابة ملياري دولار كرسوم لمرور الغاز الروسي من أراضيها- موضوع يؤيده ويدافع عنه بشدة نائب المستشارة في حكومة ميركل الائتلافية زيجمار جابرييل، وهو شخصية قيادية في حزب شرويدر، «الحزب الديمقراطي الاجتماعي». ولا شك أنه حسب المعايير التي تطورت بها ألمانيا لتتغلب على ماضيها النازي وتحمي شعورها القوي بالوحدة الاجتماعية، فإن هذا الأمر مخز، لكنه لا يتعلق بالمال فحسب، بل أيضاً بالاعتبارات الجيوسياسية لتهدئة بوتين واسترضائه، وهذا ينم عن افتقار مفاجئ للتضامن من جانب ألمانيا تجاه جيرانها إلى الشرق! ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»