عالم الثقافة والفنون والأدب والنشاطات الترفيهية والفلكور الشعبي والبعد الفكري.. الخ يصب في بوتقة الثقافة بوجه عام، ويمثل قوى دافعة مؤثرة في أنماط وسلوكيات تتسلل وتدخل خلسة في حياتنا اليومية أو يفرضها علينا الواقع. ولا نملك حيالها سوى التطبيع بصورة جزئية أو كلية أو الرفض لنتفاجأ بأننا نمارس أو نعيش في معمعة ما نرفضه، ناهيك عن تصورات وميول وآراء وانطباعات وقناعات تتشكل بصورة مبرمجة أو غير مبرمجة لتصبح أمراً تلقائياً بالنسبة لنا وتؤثر في أذواقنا وتعاطفنا واختياراتنا وقيمنا ومعتقداتنا، فثقافة كل بلد تضم عنصراً أساسياً من قوتها الناعمة النسبية في الساحة السياسية الدولية وتوجيه الرأي العام المحلي والدولي. فالدبلوماسية الثقافية من خلال التبادل الفني والثقافي وصناعة الإعلام التقليدية والافتراضية وتطبيقات التواصل الاجتماعي بما في ذلك برامج التلفزيون، الأفلام، الموسيقى، والراديو، ومواقع التواصل الاجتماعي والرياضة، والمطبخ والقائمة تطول ضمن أشياء أخرى كثيرة تلعب دوراً مهماً في تشكيل الكيفية التي تنظر بها دول الخارج إلى الداخل والعكس صحيح، ويمكن لهذه الأنشطة أن يكون لها تأثير كبير على العلاقات الدولية من خلال الاتصالات بين الثقافات. فالجزء الأساسي من جاذبية الدبلوماسية الثقافية هو الاعتقاد الشائع أن مثل هذه الفرص للتبادل الثقافي والخبرات والتعبير والإبداع الثقافي واللقاءات والفعاليات الثقافية والفنية يمكن أن يكون لها آثار تحويلية وبناء جسور تربط أو تهدم في الشؤون الدولية وبين الجماهير، ولذلك يتخصص جزء كبير من العمل الثقافي في الدول التي تملك رؤية شاملة لسياستها الداخلية والخارجية واستراتيجيتها الدبلوماسية المتكاملة نحو تحقيق الغايات العليا لتلك الدول، وترصد الدول الكبرى للثقافة والفنون المليارات لتفعل ما لا يستطيع أن يفعله أي سياسي أو دبلوماسي أو قرار سياسي. وفي عالمنا العربي لا توجد إدارات أو مراكز للدبلوماسية الثقافية في أغلب وزارت الخارجية العربية، والميزانية المخصصة لتلك الدوائر لاستخدام الفن والفنون والثقافة والرياضة كجزء من الدبلوماسية الثقافية التطبيقية لا تكفي لإقامة حدث محلي واحد في السنة، وعلى نطاق ضيق للغاية. إذاً الدبلوماسية الثقافية تعبر عن محتوى ذكي، ونداء عالمي لإيصال رسائل وقيم وتكرارها حتى ترسخ في الأذهان، وتصبح ضمن منهج تفكير الأشخاص العاديين قبل أصحاب القرار، كما تستخدم بعض الدول الثقافة لإبراز التمايز الحضاري، وتهيئة الداخل- قبل الخارج- قبل اتخاذ قرار مهم في شتى المجالات، وحتى لو اتخذ ذلك القرار بعد ربع قرن، فإن الإعداد له يبدأ مبكراً وفق خطة واضحة المعالم، فكيف نستغرب بأن العولمة هزمتنا بصمت مخيف وبصورة تدريجية تثير الإعجاب. وبعد العولمة، الديمقراطية قادمة كما يُسوق لها الغرب ولخدمة مصالحهم أولاً وأخيراً، ونحن نقف مكتوفي الأيدي حيال حوار الحضارات، الذي يقود لسيادة فكر وقيم حضارة واحدة، وهل نحن في الأساس نعتبره تهديداً، دع عنك بعيداً مواجهته بعقلانية، والتحدي الأكبر يكمن في أن البيانات السياسية في ما يتعلق بالدبلوماسية الثقافية ليست دائماً واضحة أو متوفرة، وتفتقر إلى المفردات لمعالجة دور الثقافة في الدبلوماسية الثقافية والدراسات والأبحاث المعمقة في هذا الجانب لدعم القرار بصورة علمية مدروسة. ومن المضحك المبكي أنه إذا أرادت دولة عربية تفعيل الدبلوماسية الثقافية لديها أتت بالخبراء الأجانب ليضعوا لهم خريطة الطريق لأمر ينبع من صميم قيمهم وثقافتهم، وكأن قيمنا وأفكارنا ورؤيتنا الإستراتيجية العامة نحن لسنا الأجدر معرفياً بالترويج لها. والإشارة إلى الثقافة في سياق الشؤون الدولية يعكس التواصل مع العالم، لنقول للمجتمع الدولي: من نحن. ونقول لهم: إن لدينا قصة، وصورتنا من البديهي أن نكون نحن الأكثر قدرة على نقلها للآخر. فالدبلوماسية الثقافية تكشف عن روح الأمة، والثقافة والفنون لها دور محوري في تعزيز أمن كل دولة، وهي أداة فعالة لطمأنة الشعوب الأخرى وكسب ثقتها من خلال إبراز وجهنا الحضاري. ونقول لهم: نحن مهتمون كذلك بقيمكم وحضارتكم، ونحترم ثقافتكم، ونريد أن نعرف كل ما نستطيع عنها، وما بينا من أمور إنسانية مشتركة تفوق دهاليز السياسة، ولدينا فضول كبير لنفهمكم من خلال منظوركم أنتم، ونحن لسنا هنا بصدد معركة كسب العقول والقلوب معاً، بل إن نكون معاً فريقاً واحداً نحو تقارب حضاري أكثر فعالية، وتبادل الأفكار والمعلومات، والفن، وغيرها من جوانب الثقافة من أجل تعزيز فهم متبادل.