تابعتُ تقريراً عرضته قناة «بي. بي. سي» الإخبارية عن أوضاع العراقيين داخل العراق، وكيف تفشّى مرض الكوليرا بين الأطفال نتيجة تلوث نهري دجلة والفرات، وقلة المياه النظيفة، وعدم قدرة أغلبية الأهالي على شراء مياه معدنيّة، نتيجة تدنّي دخل الفرد العراقي الذي لا يتجاوز دولارين في اليوم! لم أصدّق الصور المعروضة المثيرة للشفقة، عن شعب كانت بلاده من أغنى البلدان، ومن أوائل الدول المصدرة للنفط في وقت من الأوقات! لعنتُ السياسة، وكيف أدّت أطماع الغرب في خيراتنا، وتلاعبُ السياسيين بأوطانهم لأغراضهم الذاتيّة إلى إفقار شعوبهم وتفشّي الجهل والفقر فيما بينهم. وتحسّرت على هذا البلد العظيم الذي كان يُطلق عليه في الماضي أرض الثقافة وبلد العلماء، ولم يكن فيها أمّي واحد، وقفزت معدلات الأمية اليوم لأكثر من أربعين بالمئة! كانت الصحف البريطانيّة قد تداولت تصريحاً على لسان توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق يقول فيه بأن هناك أخطاء حدثت إبّان الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة الأميركيّة مع حلفائها على العراق، والتي أدّت إلى سقوط بغداد واحتلال العراق. معترفاً بأن المعلومات الاستخباراتيّة التي حصلت عليها حكومة بلير وقتها حول وجود أسلحة دمار شامل لم تكن صحيحة! مقّراً بأن الإطاحة بحكم صدّام حسين، كان البداية لظهور الجماعات الإسلاميّة المسلحة داخل العراق! المثير للعجب! أن بلير يرى أن صدام حسين لو بقي في الحكم، لأصبحت العراق كسوريا اليوم! فهل تعمّد بلير مداراة الواقع المزري الذي غدا يعيش فيه العراقيون، وإخفاء الحقيقة المرعبة الواضحة للعيان؟ العراقيون ليسوا بأفضل حال من السوريين، وقد هاجر عدد كبير منهم وأصبحوا يعيشون بالمنافي نتيجة تدهور الحالة الأمنيّة. ولا ننسى مسلسل قتل العلماء العراقيين، والذي يُشير اصبع الاتهام فيه إلى إسرائيل كي لا تقوم لهذا البلد قائمة! إضافة إلى معاناة السنّة العراقيين إبّان حكم نوري المالكي الذي كان يتعمّد إقصاءهم ومنعهم من مزاولة أي أدوار سياسيّة داخل وطنهم، مما أدّى إلى ارتفاع نبرة النزعة الطائفيّة بين أبناء الوطن الواحد. لو اعتذر نيرون عن حرقه لروما بالأزمنة الغابرة، هل كان اعتذاره سيُبقي على الآثار العظيمة التي دمّرتها النيران؟ لو اعتذر الطغاة الذين حكموا أوطانهم بالحديد والنار على مدار التاريخ الإنساني، ونهبوا خيراتها، وعاثوا فيها فساداً، هل كانت اعتذاراتهم ستُمحي العذابات التي تجرعتها شعوبهم وكُويت بنارها؟ أرى أن سيل الاعتذارات، ليس سوى ذر الرماد في العيون! حتّى لا تستمر الأيدي المقهورة في توجيه اصبع الاتهام للمتورطين، محملة إياهم وزر ما جرى لأوطانها من سفك لدماء شبابها وثكل أمهاتها وحزن زوجاتها على شركاء درب قُضي عليهم! ما قاله بلير ليس بغريب! فهذا ما يقوله عادة كل سياسي ترك مقعده إلى الأبد! هو يُريد كتابة كلمة النهاية على مشواره السياسي بوضعه في إطار مذهّب ليُدرج اسمه ضمن قائمة العظماء الذين كانوا حسني النيّة في حماية البشريّة! وأنهم خُدعوا كما خُدعنا حين قالوا لنا بأن العراق ستُصبح جنّة الديمقراطيّة في خلال عقد من الزمن! بلا شك المساواة والحريّة والعدالة الاجتماعيّة، مطلب ملح لكل شعوب الأرض، لكن الملاحظ أن هذه المطالب آخذة في الانحسار! وأصبحت أغلبية الشعوب العربية جلَّ همّها العيش بكرامة وفي أمن وسلام على أرضها، وغدت هذه المطالب من الأماني الصعبة المنال! فالكل يُصرُّ على دسُّ أنفه في جلدنا وشم رائحتنا بقرف واشمئزاز، كأن الخيرات التي سرقوها منّا لم تكن ملكاً لنا! وكأنهم لم يُخططوا في السر لنبقى في تيه الفوضى للأبد! ـ ـ ـ ـ ـ ــ كاتبة سعودية