صوت انهيار هائل يمكن سماعه عبر أوروبا، إضافة إلى شعور كبير بالضجر من الأزمات المختلفة التي ألمت بها مؤخراً. وقد تبين أن «المتوسط» ليس هو الحدود الجنوبية لأوروبا، بل إن تلك الحدود تقع في مكان ما في الصحراء الكبرى حيث يلتقي المهاجرون الأفارقة ويشكّلون قوافل متجهة شمالاً. كما أن البلقان، ومثلما كانت دائماً عبر التاريخ، ما زالت تشكّل منطقة للهجرة البشرية من الشرق الأوسط. وإذا كان حلم الاتحاد الأوروبي، على مدى عقود، هو أن يصبح فردوساً يتمتع مواطنوه بالرخاء وحكم القانون وأن يقوم تدريجياً، من خلال عدد من اتفاقيات الشراكة، بتصدير خيراته إلى المناطق المجاورة، فإن تلك العملية عكست الآن: ذلك أن المناطق المجاورة هي التي أخذت تصدّر اضطرابها إلى أوروبا. وبدأت أوراسيا تندمج مع أوروبا من جديد. هذه العملية تحدث في وقت أصبح فيه من شبه المستحيل الحفاظ على دولة الرفاه الاجتماعي– التي مثّلت الجواب الأخلاقي للنخب الأوروبية على مذبحة القرن العشرين– عند مستواها الحالي في بعض البلدان. كما أن فترة الركود الممتدة منذ سنوات، والتي تفاقمت بسبب سوء السياسات النقدية، ولدت حركات شعبوية ستنقلب على موجة اللاجئين الأخيرة وتعاديهم حالما ينفد التعاطف الأولي للجمهور. ثم سيتكفل الانخفاض الشديد للنمو الاقتصادي، إضافة إلى حوادث الجريمة والإرهاب الحتمية، بتعكير المزاج الشعبي قريباً. وهكذا، وبدلاً من إرخائها، على غرار ما كانت عليه على مدى عقود، ستشدّد حدود أوروبا وتضيّق. وفي قارة مازال فيها الدم والدين يلعبان دوراً كبيراً في تحديد الجنسية، ستتعالى الأصوات المطالبة بإقامة نوع من أنواع الجدران العظيمة. واللافت أنه بينما تبدأ فترة أوروبا ما بعد الحداثة، أخذت جغرافية مائعة تعيد فرض نفسها ومحو آخر ما تبقى من انقسامات الحرب الباردة. فقد كان بقاء واستمرار الدول الشمولية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى القرن الحادي والعشرين هو الذي ساعد على الإبقاء على الحشود المسلمة محبوسة وبعيدة عن أووربا. غير أنه بينما أخذت أجزاء من الشرق الأوسط تتفكك وتسقط في دوامة الفوضى، من ليبيا إلى أفغانستان، لم يعد ثمة شيء اسمه «أوروبا القلعة» المحصنة في وجه المهاجرين. والواقع أن الاتحاد الأوروبي مازال قوياً بما يكفي للتغلب على التحديات الكثيرة التي تواجهه. فعلينا أن نتذكر أن الاتحاد الأوروبي هو أكثر من مجرد كشف ميزانية؛ بل يمثل دولًا وليس أمماً- أي حكم القانون وحماية الأفراد من القرارات التعسفية بغض النظر عن الانتماء الديني أو العرقي. وهذه الميزة، مثلما أعلم جيداً من تجربتي كصحفي في المنطقة، هي التي ما زالت تثني رعايا سابقين من الكتلة الشرقية عن التشكيك في الاتحاد. وعلاوة على ذلك، يتعين على زعماء الاتحاد الأوروبي ألا ينسوا أبدا أنه فقط من خلال إصلاح ماليتهم عبر تبني جملة من الإصلاحات الاقتصادية والنقدية الأساسية سيستطيع الاتحاد معالجة المشاكل الأخرى التي تواجهها القارة العجوز. ذلك أن النمو الاقتصادي المستديم يستطيع أن يضعف جاذبية الأحزاب الشعبوية ويستطيع بالتالي أن يسهّل على المجتمعات الأوروبية سياسياً ضم مزيد من المهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال المقبل من الأعوام. بيد أن إصلاح نظام الرفاه الاجتماعي لا يعني إنهاءه– فذاك لن يؤدي إلا إلى شكل آخر من الاضطراب السياسي والاجتماعي. ولكن الإصلاح الاقتصادي البنيوي يمثل الحل لمشكلة تفكك أوروبا البطيء. ذلك أنه إذا لم يستطيع الاتحاد الأوروبي خلق دينامية أكبر في مجال السياسة المالية والاقتصادية، فإنه سيستمر في التففت داخلياً، حيث ستسعى كل دولة وراء مصالحها الخاصة، في وقت تتضاعف فيه التهديدات الخارجية وتنصهر فيه أوروبا مع أوراسيا. ومثل هذا التحول في الجغرافيا السياسية من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة المعقل الوحيد للغرب. لقد مثّل تأسيس الاتحاد الأوروبي وتطوره أهم نتيجة للانتصار الذي قادته الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. وينبغي ألا يسمح الإيديولوجيات الوطنية الجنونية بأن تحل محله. بيد أن الرؤية السياسية تقتضي أساساً اقتصادياً صلباً. ذلك أن أوروبا قوية اقتصاديا فقط تستطيع مواجهة التهديدات المحيطة بها. وبالتالي، فإن خلاصة القول أن الجغرافيا مهمة، ولكن قدرة البشر على الاختيار أهم. روبرت كابلان كاتب أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»