من لا يعرفه سيقول وزيراً محنكاً وسياسياً فذاً. ومن يعرفه سيقول إلى جانب ذلك.معلماً ومثقفاً من طراز نادر. و عندما قرأت خبر تنحيه عن منصبه كوزير للخارجية قلت لزملائي الذين كنت جالسا معهم إن من وصف الأمير سعود الفيصل بأنه كيسنجر السياسة العربية قد ظلمه.. فهو سعود السياسة العربية وسعود السياسة الدولية. ليتني استطعت أن أحكي لهم عن مواقفه العظيمة على مر أربعة عقود كان فيها صمام التوازنات السياسية في المنطقة ورجل السلام، الذي تحققت بفضل جهوده - بعد فضل الله تعالى - توافقات بين أطراف لطالما تناحرت واختلفت لسنوات طويلة.. مشيراً إلى أن من أبرز إنجازاته الكثيرة سعيه لجمع الفرقاء في لبنان حول طاولة واحدة الأمر الذي كلل باتفاق الطائف خلال عام 1989. لقد تعلمت من هذه القامة العظيمة أشياء كثيرة من أجملها تواضعه الجم وحرصه على ألا يعرف الناس إنجازاته حتى يبقى عمله خالصا وهو ما يتعارض مع شخصية وزراء الخارجية، الذين يسعون للظهور الإعلامي والمشاركة في كل حدث والتباهي بإنجازاتهم حتى وإن كانت صغيرة.. إلا أن من أكثر ما كان يسعد سعود الفيصل أن ينجز مهمة ما ثم لا يعلم أحد أنه كان مهندسها وأداة نجاحها الحقيقية. إن مما تعلمته منه أيضاً الوضوح والصراحة المطلقة. فعالم السياسي مليء باللف والدوران والمجاملات التي تقع في غير محلها.. إلا أن الأمير سعود صاحب الأدب الجم كان صاحب مواقف واضحة مع نظرائه يقول ما يمليه عليه ضميره ومصلحة المنطقة ولذلك كانت كلمته بمثابة اتفاقية دولية وكانت صراحته تدفع حتى بمن يختلفون معه في الرأي للاتصال به وقت الأزمات طلباً للمشورة والنصح. أما عن الوقت فلقد كان الأمير سعود حارسه الأمين لا يخلف موعداً ولا يضيع اجتماعاً في كلام لا ينفع. يسعى لإنجاز الكثير في وقت قليل فتراه يفطر في بلد ويتغدى في آخر ثم يتناول عشاءه في الطائرة عائدا إلى وطنه.. كان يحرج وزراء الخارجية بهمته العالية ونشاطه المتقد فلا نملك إلا أن نحاول مجاراته فننجح تارة ونفشل في أخرى. فلقد رفع من معايير الدبلوماسية العربية وانتقل بفكرة العمل الدبلوماسي من كونه مهمة إلى رسالة يحملها المرء في حياته للحفاظ على مصالح بلاده وتنميتها. ميخائيل جورباتشوف يقول إنه «لو كان لدي رجل كسعود الفيصل ما تفكك الاتحاد السوفييتي». فمن يعرف الأمير سعود يدرك ذكاءه الفائق ودهاءه الذي يجعل الجالسين حول الطاولة يريدونه أن يقول المزيد إلا أنه كان يكتفي بالكلام المفيد والمباشر، وكان دائماً ينظر للأمور بمنظار مختلف، حيث يستطيع أن يربط الأحداث بتحليل مدهش ويتخذ قرارات قد تبدو لمن معه أن نتائجها مستحيلة.. لكن الأيام سرعان ما تثبت عكس ذلك. سألني أحد الأصدقاء أن أصف الأمير سعود الفيصل في كلمة واحدة فقلت له "الهمة".. فلم أرَ وزير خارجية قط بهمته العالية وكان النشاط والعمل الدؤوب من أهم صفاته وأجملها.. يقول المتنبي: لولا المشقة ساد الناس كلهم.. الجود يفقر والإقدام قتال. لا أدري كيف ستبدو طاولة اجتماعات وزراء الخارجية العرب بعد اليوم ورغم أن الأمير سعود وضع ركائز العمل الدبلوماسي العربي إلا أنني متأكد بأن طاولتنا ستظل ناقصة دائما..أما قلوبنا فستظل عامرة بحب هذا الرجل النبيل، الذي أدعو الله له بعمر مديد وصحة وافرة وحياة سعيدة. _ _ __ _ _ _ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير خارجية الإمارات