منذ فترة وبعض المراقبين والمعلقين الغربيين يقارنون الانفتاح المتبادل الأخير بين الولايات المتحدة وكوبا، ولقاء الرئيسين أوباما وراؤول كاسترو في قمة باناما، بما حصل في عهد ريتشارد نيكسون ووزير خارجيّته هنري كسينجر من انفتاح على الصين الشعبية مما عُرف يومذاك بـ«ديبلوماسية كرة المضرب». وكان المثال نفسه، وتقريباً بالكلمات نفسها، قد استُخدم في وصف العلاقات الأميركية- الإيرانية الجديدة كما ابتدأت مع التفاوض الذي أوصل مؤخراً إلى «اتفاقية الإطار» بين إيران والدول الأعضاء في مجلس الأمن زائداً ألمانيا. ولكنْ إذا غضضنا النظر لوهلة عن مدى الدقة في هذه المقارنات، بقي أن للجزيرة الكوبية الصغيرة خصوصيتها، على الأقل حيال جارتها الشمالية العملاقة. فالأولى هي الفناء الخلفي للثانية، والتي بفعل صغرها وفقرها لا تشكل أي خطر أو تهديد جديين للولايات المتحدة. وإذا كان الكلام عن هذين الخطر والتهديد ممكناً في ظل الاتحاد السوفييتي -الذي كانت كوبا له بمثابة قاعدة عسكرية وإيديولوجية على حدود أميركا- فإنه اليوم كلام لا يُعتد به على الإطلاق. والحال أن الموقف من حصار كوبا -البادئ في 1960- ومن رفع هذا الحصار كان على الدوام جزءاً من السجال الداخلي، السياسي والإيديولوجي، الأميركي- الأميركي. فالحزب الجمهوري على عمومه ومعه الجناح اليميني في الحزب الديمقراطي كانا باستمرار متشددين حيال الجزيرة الصغرى ومتمسكين بحصارها بحجة درء الخطر الشيوعي الذي يمثله نظامها التابع لموسكو. ولم يكن هذا الموقف عديم التأثر برغبة الجالية الكوبية الكبيرة، لا سيما في ميامي التي هاجرت أو هربت من كوبا الكاستروية حاملة معها نقمتها العارمة على النظام السياسي في الوطن الأم. وفي المقابل، فإن يسار الحزب الديمقراطي بدوره، ومعه مجموع القوى والكتل التي تقف على يسار المتن العريض، كانت تطالب دوماً بقلب سياسة الحصار المعمول بها وإبدالها بسواها. فهذه السياسة، في نظر هذا الفريق، غير مجدية أصلاً لأنها تقوي النظام الذي يستفيد من العزلة والحصار كما يشدد قبضته البوليسية على المجتمع. ثم إنها، تبعاً للنقاد أنفسهم، سياسة حاقدة لا تريد أن تهجر الأحقاد القديمة التي يؤرخ لها بانتصار ثورة كاسترو وجيفارا في 1959 التي أطاحت الديكتاتور «باتيستا»، وما تلى ذلك من مواجهة خليج الخنازير وما عُرف بأزمة الصواريخ الكوبية مع الروس. وفوق ذلك، فسياسة الحصار كاذبة تقوم على نشر الزيف والوهم وتستعيد صورة بدائية عن حصار المدن كما كانت تتم في القرون الوسطى، وكل ذلك لأنها تريد إبقاء كوبا عدواً يتكتل في وجهه بقية الأميركيين. والراهن أن أوباما ينتمي إلى هذه المدرسة في التفكير والسلوك، التي قويت حجتها في العقود الثلاثة الماضية لأسباب شتى ومتباينة. ففضلاً عن كون ضعف كوبا لا يخيف، وكون الاتحاد السوفييتي لم يعد قائماً أصلاً، انحسر الخوف من الشيوعية، كما من الديكتاتورية العسكرية، في عموم بلدان أميركا اللاتينية. وباستثناء فنزويلا الشافيزية لم يعد ثمة أعداء لأميركا بالمعنى الذي كانت عليه الحال في العقدين الستيني والسبعيني. فصفحة تشي جيفارا و«التوباماروس» طويت إلى غير رجعة في أغلب الظن، كما باتت الأحزاب الاشتراكية منخرطة في اللعبة السياسية والديمقراطية، تنضبط باعتباراتها وإملاءاتها. وإلى ذلك، وعلى ما هو حاصل في الشرق الأوسط، عملت النتائج السلبية لحربي بوش الابن في أفغانستان والعراق على دفع الرأي العام الأميركي أكثر فأكثر نحو تعزيز توجّهات السلم والانفتاح أينما كان، وتفضيلها بالتالي على خيارات الحروب والتصعيد والحصارات والعقوبات. وثمة بين دارسي السياسة والاجتماع في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية من يسند هذا الرأي إلى سبب آخر ديموغرافي هذه المرة. ذاك أن العائلة الغربية التي كانت تنجب في الخمسينيات والستينيات خمسة أبناء أو ستة، بما يجعلها تتحمل موت واحد منهم في الحروب، صارت اليوم تنجب ولداً أو ولدين في الحدّ الأقصى، وبات من المستحيل بالنسبة لها أن تقدم ما كانت تقدمه قبلاً «فداءً للوطن». وإلى هذه العوامل جميعاً، يتبدى أن الأوبامية، حيال كوبا، تملك طريقة في التفكير لا يعوزها التماسك: فهي تمنح الأولوية للنموذج والصورة والسلع والبيع والشراء، أي لـ«القوة الناعمة»، وليس للقوة العسكرية وتهديدها، أي «القوة الخشنة». فإذا ما هجمت الاستثمارات الأميركية والغربية، ومعها الأفلام والأشرطة والكتب والسلع وبقية العدة الملازمة، سيغدو أصعب فأصعب على شيوعيي كوبا وخمينيي إيران إقناع شعبيهم بقبول نظاميهم الديكتاتوريين. وهو رهان ربما كان يستحق أن يُعطى فرصته. أما بالعودة إلى المثل الصيني، فيستطيع خصوم أوباما أن يقولوا إنّ الصين، على رغم كل شيء، لم تتخلّ عن نظامها الشيوعي. ولكن في وسع أوباما أيضاً أن يقول إن الصين التي انخرطت حتى أذنيها في علاقات السوق، لم تعد بلداً مخيفاً.