الأحداث الدامية الساخنة والتداعيات الراهنة في اليمن، تستدعي أن نلتفت لهذا البلد، وتفرض علينا عدم تركه مرة أخرى للوقوع فريسة سهلة المنال، ونهباً للأطماع الخارجية، التي يبدو أنها كانت تواكب تاريخه القديم والحديث، وتقوم تلك الأطماع على استغلال فقر اليمن ونزاعاته والفوضى المتفشية في ربوعه، والتضحية بأمنه واستقراره ومستقبل أبنائه لخدمة أجندات ومخططات شيطانية لا تخدم اليمنيين، وفي الوقت ذاته تهدد الأمن القومي العربي إجمالاً. الالتفات لليمن والتركيز عليه، يفرض علينا كذلك من باب المعرفة والفهم، العودة إلى منعطفات ومحطات تاريخية موغلة في القدم، لاستقراء دلالات بعض محطات التدخل الخارجي، وعلى وجه التحديد التدخل الفارسي، الذي يتضح أن عينه كانت على هذا البلد منذ قرون خلت وأنه محط أطماعه، وبتسهيلات وتواطؤات ينبغي ألا تتكرر. وتحكي سجلات التاريخ، أن أشهر الممالك التي قامت في اليمن قبل الميلاد وبعده هي المملكة الحميرية، وملكها الشهير ذو نواس الحميري، اليهودي الديانة، والذي صب جام غضبه على سكان نجران عند تحولهم إلى المسيحية عن قناعة آنذاك، وكان «ذو نواس» قد خيّرهم بين العودة إلى اليهودية أو القتل، فاختاروا الموت، وهذا ما حصل، الأمر الذي أدى إلى غضب النجاشي صاحب مملكة الحبشة المسيحية، والذي قام بدوره بإرسال نسخة محروقة من الإنجيل إلى قيصر الروم، حُرقت مع «أصحاب الأخدود»، فطالب قيصر الروم نجاشي الحبشة بالانتقام من اليمن وأرسل السفن الحربية إلى الحبشة، وبدوره حشد النجاشي نحو 70 ألف جندي للثأر من اليمن، وأرسلهم بقيادة أرياط الحبشي وأبرهة الأشرم الحبشي، وارتكبا ما ارتكبا من مجازر وتخريب وسبي وذل. أما ذو نواس الحميري فقد ولى هارباً تاركاً بلاده في قبضة الأحباش، وأصبح أبرهة الأشرم ملكاً على صنعاء بعد مقتل زميله أرياط، ويُقال: إن أبرهة هو من قتله غيلة. ولم يكتف أبرهة بهذا الانتصار، بل كان يضمر الكره المتأجج للعرب وقرر غزو مكة وتدمير الكعبة، لكنه أخفق في تلك الغزوة ومات أثناءها ابنه يكسوم، فتولى حكم اليمن من بعده مسروق بن أبرهة، الذي قُتل على يد الفرس المجوس في القرن السادس الميلادي، بعد أن استعان بهم سيف بن ذي يزن لطرد الأحباش. أي أن ذو نواس تسبب في دخول الغزو الحبشي لجنوب الجزيرة العربية، بينما جاء دخول الفرس على يد سيف بن ذي يزن الحميري، الذي كان أحد أشراف اليمن، وكان في بداية الأمر قد قصد «يخطيانوس» ملك الروم لنجدة اليمن من الاحتلال الحبشي، لكن الروم خذلوه لأنهم كانوا يرون في الأحباش إخوة لهم في الدين، فقصد ابن ذي يزن كسرى الفرس أنوشروان، وعرض عليه أن تدين اليمن بالولاء للحكم الفارسي بعد تخليصها من الأحباش، ولكن أنوشروان اعتذر بسبب بعد المسافة وفقر اليمن وقلة خيراته، وأمر له بعشرة آلاف درهم؛ وقد غضب «ذو يزن» وراح ينثر المال على الصبية والعبيد والإماء، وعندما علم كسرى بذلك استدعاه ليستفسر منه عن تصرفه هذا، فقال: إنه لم يأتِ طلبا للمال، إنما للرجال، فاستشار أنوشروان وزراءه، فأشاروا عليه بأن لديه عدداً كبيراً في السجون من المحكومين بالإعدام، فإن أرسلهم وهلكوا فقد تم تنفيذ الحكم بهم، أما إذا ظفروا فستزداد رقعة المملكة الفارسية. وكان عدد المحكومين بالإعدام 800 سجين؛ تم تجهيز 8 سفن لهم، على متن كل واحدة 100 شخص، وفي عرض البحر غرقت سفينتان وبقيت 6 سفن بقيادة «وهرز» الفارسي، وبمجرد وصولهم إلى اليمن اشتبكوا بالتعاون مع اليمنيين في معركة فاصلة مع الأحباش وانتصروا عليهم وقتلوا قائدهم مسروق بن أبرهة، وبعد هذا الانتصار أرسل كسرى 4 آلاف مقاتل فارسي إلى اليمن للقضاء التام على كل الأحباش، ثم غادر «وهرز» وجماعته الفرس اليمن عائدين إلى بلادهم، وتربع سيف بن ذي يزن على عرش اليمن على أن يدفع جزية وخراجاً سنوياً، ودانت اليمن لبلاد فارس، وعندما ظهر الإسلام كانت اليمن لاتزال تدين بالولاء للفرس، بل إن حاكمها في صدر الدعوة الإسلامية كان فارسياً يدعى «باذان ابن ساسان جَرون|، وهو آخر حاكم فارسي في اليمن في عهد كسرى الثاني. وتروي المصادر التاريخية أن "باذان" دخل في دين الإسلام، واستمر يحكم اليمن من صنعاء. هل نقول بأن حنين الفرس لليمن يحرك أطماعهم من جديد للتواجد في جنوب الجزيرة العربية؟ وإذا كانت الاستعانة بالفرس في حقبة تاريخية قديمة حدثت بمبرر طرد الأحباش، فما الداعي لفتح مجال للتدخل الفارسي، وفي هذا العصر الذي يمتاز باستقلال الدول وسيادتها؟ لا شك أن أي تطفل فارسي على اليمن وتدخل في شؤونه، سيفشل عندما يجد ممانعة وطنية أصيلة من أبناء البلد المستهدف، أما عندما يجد من يهللون له لأسباب مذهبية وطائفية، فإن المرحبين بهذا التطفل خائنون، ويعزلون أنفسهم عن وطنهم وشعبهم وأمتهم، بل ويصبحون خطراً على أنفسهم. ومن المهم التذكير أيضاً بأن الأطماع الإيرانية، تتحرك على خلفية كراهية العرب ونزعة الحقد القومية الفارسية.