نحن أمام مرحلة تاريخية حقيقية في المنطقة، وهي مرحلة سترسم فيها موازين القوى، وتقرر فيها حسابات الأرباح والخسائر، ويتشكل فيها المستقبل بكل أبعاده، وقد جاء توقيع الاتفاق الإطاري بين الدول خمسة زائد واحد وبين إيران مسبوقاً بعملية "عاصفة الحزم" والتحالف العربي الكبير الذي تشكلت منه. في كل التصريحات الغربية، "كيري"، "هاموند"، "فابيوس"، يتضح أن المشكلة ليست في المبادئ العامة والمعايير الكبرى بل في التفاصيل، والشيطان يكمن دائماً في التفاصيل، إنْ من جهة "الشيطان الأكبر"، وإنْ من جهة "محور الشر" كما كان الطرفان ينعتان بعضهما قبل أن يقرر أوباما أن اتفاقاً مع إيران سيكون الإنجاز الوحيد الذي سيدخله تاريخ الرؤساء الأميركيين الناجحين. وقد صرحوا جميعاً بأن الاتفاق الإطاري حول المشروع النووي الإيراني لن يلغي الخلاف حول أدوار إيران التخريبية في المنطقة بألفاظ مختلفة، فقال أوباما: "ستبقى بواعث قلقنا بخصوص السلوك الايراني طالما واصلت إيران رعايتها للإرهاب ودعمها لوكلاء يزعزعون استقرار الشرق الأوسط وتهديداتها ضد أصدقاء أميركا وحلفائها"، وقال وزير خارجيته جون كيري: "إن الولايات المتحدة لا تزال قلقة جداً من أنشطة إيران لزعزعة الاستقرار في المنطقة"، وأضاف: "ما زلنا نشعر بقلق بالغ بشأن الأنشطة التي تزعزع الاستقرار من جانب إيران في المنطقة". وقال وزير خارجية بريطانيا فيليب هاموند: "ستستمر خلافاتنا مع إيران بشأن قضايا أخرى كثيرة"، وهذه القضايا الأخرى والملفات الأخرى هي المعضلة الكبرى التي يجب أن تنتهي عنها إيران. واضح أن ما جرى في "لوزان" ليس اتفاقاً نهائياً وشاملاً، ولكنه إطار لاتفاق يشمل المعايير الرئيسية تجاه ملف المشروع النووي الإيراني، وعلى الرغم من ضخ الطرفين لفرحٍ كبيرٍ غير مبررٍ بعد إلا أن هذا هو التوصيف الحقيقي. ما تثيره النقاط التي تم التصريح عنها من الأسئلة أكثر مما تمنحه من الأجوبة، فالتصريحات التي خرجت تتحدث عن مسائل عامةٍ وبعض التفاصيل، ولكن ثمة تفاصيل أكثر يجب الحديث عنها وإثارة الأسئلة حولها. وبعيداً عن الملف النووي، فماذا عن تدخلات إيران في الشؤون الداخلية للدول العربية، في لبنان وسوريا والعراق واليمن؟ وماذا عن دعم إيران للجماعات الإرهابية سنياً وشيعياً؟ نعم، سيلتقي أوباما قادة دول مجلس التعاون الخليجي في الربيع لشرح تفاصيل الاتفاق، وكيف ستكون طبيعة العلاقات في المنطقة والعالم بعد هذا الاتفاق، وما هي الضمانات لالتزام إيران؟ إن مشكلات السعودية ودول الخليج مع إيران هي الأولوية وليس المشروع النووي فحسب، الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة، سياسات إيران المعادية، رعايتها للإرهاب، المشروع الإمبراطوري الموجه للعرب تحديداً، كيف يمكن كبح جماح إيران في هذه الملفات؟ لقد أثبتت "عاصفة الحزم" أن دول الخليج قادرة بقوتها الذاتية على حماية مصالحها، وهي قادرةٌ بعلاقاتها ومكانتها وتحالفاتها على صنع الكثير مما يمكن أن يضر بمصالح إيران، فيما لو أرادت التمادي في سلوكها وتدخلاتها المشينة ضد الدول والشعوب العربية، كما أن ثمة ورقة لم تلعبها دول الخليج بعد، وهي سياسة الرد بالمثل، فدول الخليج قادرة على التدخل في الشؤون الداخلية الإيرانية فيما لو أرادت، وقادرة على اللعب على التناقضات الداخلية لإيران، وقادرة على محاصرتها، وإشغالها بنفسها، وبيدها الكثير من الملفات التي تستطيع من خلالها التأثير على مستقبل المنطقة. لقد كان المشروع النووي الإيراني أولوية لدول الخليج، وكانت لديها الحلول لمواجهته، ولكن لدى دول الخليج والدول العربية أولويات أخرى يقف على رأسها مشروع إيران لبسط الهيمنة على الدول العربية عبر رعاية الإرهاب والجماعات الإرهابية المسلحة، وهو ما نجحت فيه في العراق وسوريا واليمن ولبنان وغزة حتى الآن. إن انقلاب الخطاب الإيراني والإيديولوجيا الإيرانية القائمة على شيطنة الغرب ستكون له تأثيرات على هوية إيران الثورة وإيران الإسلامية المعادية للغرب، وسيكون عليها التعايش مع مفتشين دوليين ينتهكون سيادتها ويراقبون مفاعلاتها ويحدون من نشاطها، كما كان نظام صدام حسين يعاني في التسعينيات بعد خسارته لحرب الخليج الثانية، وأن تبرر للشعب الإيراني حرباً امتدت لأكثر من 34 عاماً ثم تنازلت عن كل مبادئها وأيديولوجيتها في لحظةٍ واحدةٍ. لقد كان انطلاق "عاصفة الحزم" ضرورياً لإعادة ترتيب المشهد الخليجي والعربي والإقليمي والدولي، ليتزامن مع الاتفاق النووي، ولتعرف إيران القوة الحقيقية لجوارها العربي وبخاصة السعودية ودول الخليج. ملخص هذه الأوضاع في المنطقة هو أننا لم نضعف بل نتقدم، وأن إيران لم تنتصر، بل تتراجع، ولن تهنأ بالاتفاق النووي ما لم تكف شرها عن العرب.