كان الخطاب الذي ألقاه «جيب بوش»، المرشح الجمهوري المحتمل لرئاسيات عام 2016، حول السياسة الخارجية الأميركية، مثالًا آخر على مدى ضيق أفق الرجل بالشؤون الدولية وحيثياتها وهو ليس وحيداً في هذا بل معه العديد من منافسيه الجمهوريين الآخرين، وهي خاصية تكاد تنسحب على جميع الجمهوريين ولا تستثني منهم أحداً. فمن بين ما ادعاه في الخطاب وكان مخطئاً قوله إن عدد أفراد «داعش» يصل إلى 200 ألف مقاتل يحاربون في الجبهات العراقية والسورية، وهو رقم يتجاوز بعشر مرات التقديرات العقولة لدى الخبراء ورجال الاستخبارات! وأضاف بوش أن «داعش» تمثل ظاهرة جديدة، فيما هي في الحقيقة قديمة وتعود إلى تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» الذي ظهر بدايته في 2003، وكان أحد الأسباب التي ساقتها إدارة الرئيس السابق جورج بوش لغزو العراق. وفي الوقت الذي سعى فيه «جيب بوش» لتحميل مسؤولية الانهيار الحالي الذي يشهده العراق لإدارة أوباما، التي سحبت قواتها من هناك في 2011، تبقى الحقيقة هي أن ما يجري لا علاقة له بالإدارة الحالية، لأن الانسحاب كان مقرراً سلفاً منذ 2008 بموجب اتفاقية وقعها جورج بوش مع الحكومة العراقية حددت وضع القوات الأميركية. ولكن على رغم هذه الأخطاء التي وقع فيها «جيب بوش» في خطابه حول السياسية الخارجية، فهو يظل مع ذلك أكثر معرفة بالشؤون الدولية من باقي أعضاء حزبه الذين أدمنوا ترداد الأساطير والخرافات، وما علينا سوى النظر إلى السذاجة والجهل اللذين أبداهما الجمهوريون في الكونجرس خلال الخطاب الذي ألقاه نتنياهو، ففيما كان هذا الأخير يستعرض أباطيله وترّهاته على أسماع الكونجرس، كان أعضاء مجلس النواب والشيوخ من الجمهوريين يهزّون رؤوسهم في خنوع واضح! وعلى رغم كل الأخطاء التي ارتكبها السياسيون الأميركيون من الحزبين فإن قلة منهم يملكون الشجاعة للاعتراف بذلك، بما في ذلك فيهم هيلاري كلينتون نفسها، التي ما زالت تعاند في مسألة غزو العراق، وأيضاً في قضية التدخل بليبيا والإطاحة بالقذافي، بل إن القليل منهم يعرف أن فرنسا هي من بادرت بضرب ليبيا، حيث ساهم برنار هنري ليفي، الذي يروج لنفسه كمفكر فرنسي، في إقناع الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، وهو لا يقل أيضاً في جهله عن نظرائه الأميركيين، بأن ليبيا على شفا إبادة جماعية، وعندما رأى الأميركيون كيف تدخل الأوروبيون دون موافقتهم سارعوا هم أيضاً إلى تبني العمليات وإخضاعها لقيادة حلف شمال الأطلسي، فقط ليتبين اليوم الخطأ الكبير لهذا التدخل. والحاصل أن السياسيين الأميركيين لا يعرفون سوى القليل عن الشؤون الخارجية، حيث كانت القاعدة طيلة الجزء الأول من القرن العشرين هي انعزال أميركا عن العالم والنأي بنفسها عن مشكلاته، ولم يتغير هذا المعطى نسبياً إلا بمجيء الرئيس وودرو ويلسون الذي أعاد وضع أميركا على خريطة العالم كقوة أخلاقية تبرر لنفسها التدخل في أنحاء العالم المختلفة. ولكن قد يتساءل البعض اليوم عن أفق استمرار هذا النزوع الأميركي للتدخل في ظل تراجع اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط، واستمرار التوسع الصهيوني في الأراضي المحتلة، وأيضاً تمدد الإرهاب «الجهادي»، هذا فضلًا عن النتائج الكارثية للحروب الأميركية في المنطقة! غير أن الابتعاد الأميركي عن الشرق الأوسط يقابله انخراط حلف شمال الأطلسي في حشد قواته بشرق أوروبا، وهو الأمر الذي بدأ في أوكرانيا وامتد إلى إجراء المناورات العسكرية في بولندا ودول البلطيق. وفي تطور آخر لافت لطبيعة الحروب التي تخاض اليوم قال القائد الأعلى لقوات «الناتو» الجنرال فيليب بريدلوف، أمام مؤتمر أمني في بروكسل إن الحروب اليوم ذات طبيعة «هجينة»، بمعنى أنها تجمع بين «الدبلوماسي والإعلامي والعسكري والاقتصادي... بحيث تحولت هذه العناصر كلها إلى أدوات للضغط تستهدف قيادات الدول المناوئة». وقد أشار أيضاً إلى ما يصاحب الحرب عادة من تشييد «صرح من الأكاذيب والمعلومات المضللة» لمواكبة الحروب الجديدة. ولكن أميركا نفسها تخوض حرباً «هجينة» في أوكرانيا، فحسب تقرير نشرته مجلة «ذي ناشونال إنتريست» في شهر الجاري أشار جيمس كاردن إلى وجود انقسام داخل إدارة أميركا حول الموضوع الأوكراني، فالرئيس حسب التقرير «فقد السيطرة» على السياسة الخارجية بعد أن بات عاجزاً عن ضبط فصيل داخل وزارة الخارجية يقوده بعض عناصر المحافظين الجدد مثل فكتوريا نيولاند، ومعه البنتاجون وعدد من مراكز التفكير في واشنطن يطالبون بتسليح أوكرانيا، ولو صح هذا الانقسام داخل البيت الأبيض لهان حقاً أمر الانقسام الآخر تحت قبة الكونجرس. ويليام فاف كاتب أميركي مقيم في باريس ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»