أتذكر تلك اللحظة التي قابلت فيها ياسر عرفات للمرة الأولى في مؤتمر القمة الإسلامي التاريخي الذي عقد في باكستان عام 1974. في ذلك المؤتمر تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني كما تم الاعتراف بياسر عرفات ذاته كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية وهو المنصب الذي ظل يشغله منذ ذلك اليوم وحتى اليوم الذي رحل فيه عن عالمنا.
ويعتبر استمرار عرفات في منصبه حتى تلك اللحظة شهادة أكيدة على قدراته القيادية، وعلى الثقة التي كان الفلسطينيون يكنونها له. فعرفات رجل لم يتخل عن الفلسطينيين، كما أن الفلسطينيين بدورهم لم يتخلوا عنه أبداً خلال سنوات التجارب والمحن. لقد كان عرفات رمزاً للقومية والشخصية الفلسطينية، ورمزاً لنضال الشعب الفلسطيني من أجل استرداد أراضيه السليبة، وبناء دولته المستقلة.
لقد عاش عرفات بشجاعة ورباطة جأش وسط حياة تكتنفها الاغتيالات والحروب الدموية، كما أمضى سنواته الأخيرة رهين محبسه في مقر قيادته المدمر دون أن يفقد إرادته، أو روحه الوثابة، ودون أن يستسلم. وياسر عرفات أيضاً هو الرجل الذي نجح في صنع السلام مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين، وهو السلام الذي أتاح الفرصة لظهور السلطة الفلسطينية. وقد تحقق ذلك الظهور بموجب إعلان المبادئ، الذي أتاح للفلسطينيين الإمكانية لإقامة حكم ذاتي في قطاع غزة والضفة الغربية. ومع ذلك فإن المسائل التي لم يبت فيها مثل مصير المستوطنات الإسرائيلية القائمة على أراضي الضفة الغربية، وحق العودة للفلسطينيين الذين خرجوا من ديارهم عام 1948، ومستقبل القدس خيمت بظلالها على تلك الخطوات التجريبية لإيجاد تسوية سلمية لمشكلة الشرق الأوسط.
ثم جاء اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين ليكون بمثابة ضربة قاصمة لمسيرة السلام في الشرق الأوسط. فمنذ أن لقي الرجل مصرعه برصاصات متطرف يهودي، بدأت تلك المسيرة في التدهور، وانتشر العنف والموت الذي جعل المنطقة برمتها تغرق في بحر من الدماء. وقد مثلت تلك الظروف المستجدة، تحدياً جديداً من التحديات التي واجهت عرفات على امتداد مسيرته النضالية الطويلة. ففي أعقاب الانتفاضة الثانية، وانتهاء فترة ولاية إدارة كلينتون التي دشنت عملية السلام في الشرق الأوسط، رفضت الحكومة الإسرائيلية الجديدة التعامل مع عرفات، ودعت الفلسطينيين إلى تغيير نظامهم. ولكن الفلسطينيين لم يستجيبوا لذلك، ولم يقوموا بتغيير الرجل الذي أعطوه تفويضاً للحكم بالنيابة عنهم.
لقد ادعى الكثير من الإسرائيليين والأميركيين طويلا أن الموقف في الشرق الأوسط لن يتغير طالما ظل عرفات على رأس القيادة الفلسطينية. والآن وبعد أن صعدت روح ياسر عرفات إلى بارئها، فإن الأيام ستثبت ما إذا كان تغيير النظام الذي تم وفقاً للمشيئة الإلهية، سيجلب تغييراً في الأوضاع السائدة في منطقة الشرق الأوسط أم لا. وعلى العموم، فإنه لو حدث وتحقق أي نوع من التغيير في الأوضاع في الشرق الأوسط، فإن ذلك التغيير سيدين بالكثير للرجل الذي ظل حاملا للراية الفلسطينية على امتداد نصف قرن من الزمان تقريباً، والذي عاش ومات من أجل قضية فلسطين.
لقد كان الرئيس ياسر عرفات رجلا ذا قدرات تنظيمية فذه حيث استطاع بمهارة فريدة أن ينظم شؤون الشعب الفلسطيني حتى وهو يسير على ذلك الخيط الرفيع الذي كان يضطره إلى التعامل مع القادة المسلمين والعرب المختلفين، الذين كانت لهم في بعض الأحيان أجنداتهم الخاصة بهم. ولقد كتب الرئيس بدمه رسالة ذات مرة يقول فيها: لا تنسوا فلسطين... كما أمضى سنوات طويلة في المنفى مما جعل الكثيرين يقومون بشطبه من حساباتهم كي يفاجأوا به بعد ذلك وهو ينتفض من النسيان ويعود بقوة متجددة مثل طائر الفينيق الأسطوري.
إن الشعب الباكستاني لا يملك سوى أن يشارك الشعب الفلسطيني في مصابه الجلل. لقد كان عرفات وسيظل أباً لكل الفلسطينيين. وحزب الشعب الباكستاني يشارك الشعب والقيادة الفلسطينية حزنهما على ذلك القائد الكبير. كما يتقدم بتعازيه وصادق مواساته إلى السيدة سهى عرفات زوجة الزعيم الراحل وابنتهما زهوة.