لا يمكن وصف جريمة إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة إلا بأنها بربرية مقيتة نفذها برابرة هذا العصر من تنظيم «داعش» الإرهابي وأمثاله، ضاربين بكل الأعراف والقيم الإنسانية والحضارية عرض الحائط، في مشهد جرت استعادته بكل تفاصيله الوحشية من عصور مظلمة طوت الإنسانية صفحتها منذ قرون طويلة، وتم تبريره بفتاوى دينية جاؤوا بها من غياهب الفكر المنحرف لبعض منظري التطرف، تتعارض جملة وتفصيلاً مع ما جاء به الدين الحنيف من قيم سمحة تدعو إلى الرحمة وحفظ كرامة البشر وآدميتهم في أوقات السلم كما في أوقات الحرب. لقد أراد التنظيم الإرهابي بهذه الجريمة البشعة أن يحقق هدفين في آن واحد؛ الأول هو بث الرعب والخوف في قلوب أعدائه ومحاربيه، والحفاظ على صورة التنظيم المرعبة التي تمكن من خلالها من تثبيت أركانه في كثير من المناطق التي سيطر عليها، ولاسيما بعد أن بدأ أسلوب قطع الرؤوس الذي اتبعه مع ضحاياه من الرهائن الأجانب، وآخرهم الضحيتان اليابانيتان، يفقد تأثيره المرعب المطلوب، فلجأ إلى أسلوب جديد أكثر إثارة وتخويفاً، من أجل تحقيق هذا الهدف وإحداث أكبر صدى إقليمي وعالمي ممكن. أما الهدف الثاني، فهو إيصال رسالة إلى مؤيديه وأتباعه والمتعاطفين معه من التنظيمات المتطرفة الأخرى، بأنه لا يزال يمتلك الإمكانات والقدرات التي تساعده على مواجهة كل محاربيه وأنه قوة لا تقهر، في محاولة لاجتذاب مزيد من هؤلاء المتطرفين حول العالم، الذين تستهويهم مناظر العنف والقتل والجرائم الوحشية التي تعكس طبيعتهم الإنسانية الشاذة. لكن هذه الجرائم البشعة ستدفع بكل تأكيد في اتجاهات معاكسة، فالدول والقوى التي أخذت على عاتقها التصدي لهذا التنظيم ومواجهته ستزداد حرصاً وإصراراً على المضي قدماً في هذه الحرب، بعد أن تبين لها أنه لا يمكن التعايش مع كائنات بهذه الصفات الإجرامية، كما أن هذه الجريمة قد تدفع آخرين لا يزالون مترددين إلى الانضمام إلى هذه الحرب العادلة. في المقابل، من المتوقع أن تدفع هذه الجرائم الوحشية كثيراً من الشباب الذين كانوا غير مدركين لطبيعة هذا التنظيم وجرائمه إلى مراجعة مواقفهم، وهو ما من شأنه أن يضعف قدرة هذا التنظيم على مزيد من التجنيد في صفوفه. لقد كشفت جريمة إحراق الطيار الأردني أننا أمام تنظيمات لا تمتّ إلى الإنسانية بشيء، وتشكل خطراً داهماً على الحضارة الإنسانية برمتها، الأمر الذي يفرض على المجتمع الدولي بأسره التحرك بمزيد من الجدية للقضاء التام على هذه الكيانات الجرثومية التي تشكل تهديداً غير مسبوق للسلم والأمن الدوليين، فخطرها لم ولن يقتصر على منطقة الشرق الأوسط، وإنما سيمتد إلى العالم كله على نحو ما أظهرته العمليات الإرهابية التي وقعت في فرنسا وأستراليا وكندا وغيرها، ولن يكون أحد في مأمن إذا تمكنت هذه التنظيمات من فرض وجودها في المنطقة. وهذا الأمر، أي جدية المواجهة، ينبغي تأكيده مراراً، ولاسيما في ظل الشكوك التي بدأت تثار حتى في الغرب نفسه حول جدية بعض القوى الدولية في القضاء على تنظيم «داعش» وغيره من التنظيمات المتطرفة والإرهابية في المنطقة، وهذه الشكوك أشار إليها تقرير حديث للجنة الدفاع والأمن القومي في البرلمان البريطاني عندما انتقد حكومة بلاده قائلاً إن هناك فجوة كبيرة بين العبارات الرنانة التي ترددها، وواقع الحملة على الأرض، مضيفاً أنه «سيكون من الصعب جداً تدمير داعش» نظراً إلى عدم وجود استراتيجية واضحة بهذا الشأن، كما أننا بدأنا نشهد جدلاً غريباً في الساحة السياسية الغربية بشأن إمكانية العمل على احتواء التنظيم وليس القضاء عليه، بدعوى أن القضاء عليه سيستغرق سنوات طويلة. والسؤال هو: هل يمكن التعايش مع تنظيم إرهابي بهذه الوحشية والتطرف؟! وهذا الجدل الغربي يؤكد من جديد الحاجة إلى أهمية تعزيز التضامن العربي في مواجهة هذه التنظيمات الإرهابية، لأن الدول العربية هي المعنية بالأساس بمواجهة هذه التنظيمات، التي استباحت أراضي كثيرة منها، وهذا الأمر أكدته دولة الإمارات العربية المتحدة، وجسدته فعلاً واقعاً في كثير من المناسبات والمواقف الحاسمة، وكان آخرها مبادرتها بتمركز سرب من الطائرات المقاتلة «إف 16» التابعة للقوات الجوية الإماراتية في الأردن الشقيق، تعبيراً عن وقوف دولة الإمارات قيادة وحكومة وشعبا إلى جانب المملكة، ودعماً للمجهود العسكري للقوات المسلحة الأردنية ومشاركتها الفاعلة في الحرب ضد تنظيم «داعش».