يقيم بعض المحللين السياسيين اليوم أوجه شبه بين سقوط الشيوعية السوفييتية وسقوط حائط برلين من حيث إن كلتا الواقعتين كانت حتمية لا مفرّ منها. وفي أيام الاتحاد السوفييتي، ظهرت مؤشرات قوية تدل على اهتراء النظام الشيوعي الاستبدادي، وبأن التحولات التي كان يشهدها العالم في ذلك الوقت ستطيح به. إلا أن السؤال الذي كان يشغل المراقبين هو: «متى؟». وعندما بدأت قواعد النظام الشيوعي لألمانيا الشرقية تترنّح أواخر عام 1989، لم يعد قادراً على مواجهة الانتفاضة الشعبية بعد أن ضاقت الأحوال بالناس، وبدأ الكثير منهم بالهجرة إلى المجر وتشيكوسلوفاكيا. وكانت تدفعهم إلى ذلك، الأطروحات المعتدلة الصادرة عن موسكو التي أصبحت تحت حكم الرجل الإصلاحي ميخائيل جورباتشوف. ولم يبقَ بعد ذلك إلا أن يتكفل «أحد ما» بالقيام بحركة دفع أخيرة لإسقاط النظام الشيوعي برمته. ولم يكن هذا «الأحد المنتظر» شخصاً واحداً، بل رهط من الناس اندفعوا معاً مساء 9 نوفمبر 1989 بعد أن قرأ مسؤول الحزب الشيوعي الألماني الذي غلبه الإرهاق والتشوّش، الأمر اليومي الذي وجّه إليه في ذلك اليوم بطريقة خاطئة وفهم منه أن كل أولئك الذين يرغبون في مغادرة برلين الشرقية إلى قسمها الغربي، يمكنهم ذلك. وما لبثت الحشود أن تدفقت على مرأى من ضابط الشرطة المذهول عبر نقطة دخول. وسرعان ما وجّه الأوامر لرجاله بعدم التصدي لهم. وبدأ الناس يتنقلون بحرية عبر الجدار فيما اعتلاه المئات منهم وبدأوا بهدمه. ومهّد هذا الحدث الذي شهده العالم قبل ربع قرن لنهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفييتي ذاته إلى دول ودويلات بعد سنتين. وذهب المحللون مذاهب شتّى في تحليلهم لسقوط الجدار، إلا أن الأهم من ذلك هو أن نطرح على أنفسنا الأسئلة التالية: متى يمكننا أن نشعر بأن الأشياء على وشك التغيّر، ومتى يمكننا أن نشعر بأن التراكيب القائمة الآن في طريقها إلى الانهيار السريع، وكيف يمكننا أن نميّز بين الانفجار الفوري والضغوط القوية؟ عندما قال رئيس الوزراء البريطاني «هارولد ماكميلان» في خطاب ألقاه في برلمان دولة جنوب أفريقيا عام 1960، إن رياح التغيير بدأت تهبّ على القارة، لم يكن يستند في قوله هذا على ثورات أو انتفاضات حدثت في الشوارع، بل كان يحذر مستمعيه الأفارقة من أن الظروف الراهنة لن تدوم إلى الأبد. وبمراجعة مقارِنة سريعة لأحداث الماضي، كان من الواضح أن نهاية حكم البيض للأفارقة لا يمكن اجتنابها. ولقد توصل ماكميلان إلى هذه النتيجة الاستقرائية للمستقبل بالرغم من غياب المؤشرات والدلائل التي توحي بحدوث التغيّر في ذلك الوقت. ويضاف إلى ذلك أن المطالبة الشعبية بتحقيق مثل هذه الأهداف كانت ستواجه بمقاومة عنيفة من طرف الحكام، وهذا ما حدث بالفعل في دول مثل روديسيا والجزائر. وفي بعض الأحيان، تكون طموحاتنا وآمالنا مجرّد أضغاث أحلام يصعب تحقيقها، وفي أحيان أخرى لا يمكن الإحساس بوجودها أبداً. وقبل خمسة أشهر من سقوط حائط برلين، فوجئت السلطات الصينية باندفاع حشود المتظاهرين واحتلالهم لميدان «تيانانمين». وفي حقيقة الأمر، كانت تشير الوقائع والقرائن القائمة في ذلك الوقت إلى أن الثورات في الصين مكتوب عليها أن تنتهي إلى ما هو أسوأ، لا إلى ما هو أفضل. وكان الانتقال الهادئ للسلطة في بريطانيا إبان «الثورة المجيدة» التي اندلعت عام 1688 تعاكس تماماً الأحداث الدموية التي رافقت الثورة الفرنسية بعد ذلك بقرن من الزمان. وينصحنا المحللون المتحفظون بأن «نكون حذرين في البحث عن رغباتنا» في هذا العالم المضطرب الذي يصعب استقراء أحداثه. وعندما ينتهي حكم بوتين مثلاً، فهل سيستبدل بمسؤولين إصلاحيين ليبراليين، أم بناشطين قوميين من الروس المتعصبين؟، وهل يعني حدوث تحوّل مفاجئ في النظام الإيراني القائم الآن تحولاً باتجاه الغرب أم ضده؟، ومَن مِن المحللين والمستشرفين لأحداث المستقبل يمكنه أن يخبرنا عن الحال التي ستكون عليها الصين بعد 10 سنوات؟ ونخلص من كل ذلك إلى القول إننا نحن البشر نبقى ملاحظين متابعين للأحداث بأكثر من كوننا صانعين لها. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»