تقتضي التحولات السريعة التي شهدتّها الظاهرة الإرهابية بين عامي 2013 و2014 الانتباه إلى أنّ تفسير الموجة الإرهابية الجديدة بعامل الدين وحده، تفسير قاصر؛ فمشاريع وبرامج محاربة الإرهاب التي ركزت على محاولة تغيير تفكير وعقليات الإرهابيين السابقين –العائدين أو المفترَضين كانت نتائجها ضعيفة، مقارنة بتلك التي ركزت على مبادرات إعادة الإدماج في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، التي أنجبت نتائج وقائية أفضل؛ لأنها أعطت أولوية لمسار وخلفية الإرهابي السابق أو الإرهابي الاحتياطي أو الإرهابي المفترَض، وركَّزت على وضع آليات تمكِّنه من الإحساس بامتلاك المبادرة، والوظيفة ومستقبل يتطلع إليه. كما أن توظيف نظرية الإرهاب وحدها في التفسير والتحليل، دون توظيف (فكرة التمرّد) في تناول الظاهرة الإرهابية لا يقود إلى نتائج دقيقة؛ فالتنظيمات الجديدة مثل «داعش» تشير إلى أن الأمر يتعلق بمجموعة عالمية متعددة الهويات والجنسيات متنوعة من حيث الخلفيات الاجتماعية والدينية، والحضارية، والقومية، والعرقية، والطائفية. ويتطلب ذلك التركيز على التغييرات التي طرأت على شكل الحركات الإرهابية عند دراسة مكوناتها. وترتبط الظاهرة الإرهابية بتراكمات مرتبطة بالصّراعات الدولية، التي احتدمت في مرحلة الحرب الباردة؛ حيث كانت الساحة الأفغانية حاضنة لتَشَكُّل التطرُّف المُسلَّح، وحظيت بعض الجماعات المتطرفة خلالها بتمويل وتسليح غربي، مثل: ظاهرة تمويل المقاتلين الأفغان التي تحولت إلى تنظيم «القاعدة الأم». وجاءت تداعيات التدخل الأميركي في كل من أفغانستان والعراق، بعدَ هجمات الحادي عشر من سبتمبر لتؤثر على مسار الحركات الإرهابية في التمرد على النظام الدولي. كما أدّت نتائج الحرب على العراق من ظهور النزعة الطائفية، والأعمال العدائية بين الاثنيات، إلى تجميع مزيج من السُنة والصحوات والجيش العراقي السابق في مواجهة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، والتي رعتها حكومة المالكي؛ ما مهّد إلى نشوء بيئة حاضنة لولادة تنظيم «داعش». يضاف إلى ذلك، عدم الاستقرار السياسي الذي شهدته أنظمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ بداية عام 2011، وظهور تنظيمات إرهابية جديدة في شمال أفريقيا مثل جماعة «أنصار الشريعة». لكن المتغير الخطير، هو عدم نجاح مُعظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في بناء نموذج الدولة-الأمة، بما يضمن إدماج جميع مُكوِّنات مجتمعها؛ ما سمح بتنامي ظاهرة صعود الهويات وصراع الثقافات التي شهدها العالم كأحد تجليات ظاهرة العولمة خلال العقدين الأخيرين، عدا عن إخفاق هذه الدول في إدارة ملف التنمية، وتفاقم مؤشرات الفقر والبطالة في مُعظمها، وإخفاق بعض الدول الأوروبية في إدماج الأقليات المسلمة المهاجرة. ويبقى ثمة سؤال كبير حول ما الذي يدفع المقاتلين من شتى أنحاء العالم إلى الانضمام إلى «داعش» ومثيلاتها؟ فالأمر يتجاوز الدين، ويحمل إشارات خطيرة على أن الدول أخفقت في بناء الحاضنة القادرة على الربط بين المعتقد والفرد والأرض. وما يزيد المشهد تعقيداً، هو التضارب في التقدير الاستراتيجي للموجة الإرهابية الجديدة؛ فلا تزال مؤسسات المجتمع الدولي عاجزة عن التوصل إلى تعريف دولي مُوحّد لمفهوم «الإرهاب»؛ ما أفرز تضارُباً في مصالحِ واستراتيجيات القوى الدولية والإقليمية؛ فمَنْ تُصَنِّفُهم دولةٌ ما إرهابيين، تعتبرُهم أُخرى مُقاومين، أو مُدافعين عن حقوق مدنية أو تاريخية أو دينية، وقد تحتضنهم وتدعمهم، والعكس صحيح أيضاً. واستمرار الخلل في تعريف مفهوم الإرهاب أفرز إصراراً من بعض القوى الدولية والإقليمية على حَصْر هذه الظاهرة بالعرب السُّنة، وتَجاهُل المنظمات الإرهابية من باقي المذاهب والديانات. وتدل مؤشرات كثيرة على تزايد درجة مخاطر الموجة الجديدة للإرهاب، منها التطور الذي حدث في آليات عمل هذه التنظيمات من «القاعدة» إلى تنظيم «داعش»، الذي أثبت أن الحركات الإرهابية لا تموت بالعمليات العسكرية وحدها، بل إنها قد تتحول إلى حركة عالمية أكثر قوة ونشاطا باستراتيجيات وتكتيكات جديدة، مثل ظاهرة اجتياح مناطق جغرافية والإعلان عن قيام دولة أو إمارة مثل: الرقة والموصل ودرنة. واستطاعت الحركات الإرهابية الجديدة أن تصهر عناصر بشرية عالمية متباينة من حيث العمر والجنس والثقافة؛ فتنظيم «داعش» يضم بين صفوفه بعض قيادات الجيش العراقي السابق، والمقاتلين الشيشان، ومواطنين من الصين وبريطانيا، ويجمع مغنية الروك البريطانية إلى جانب الملاكم الأسترالي، والصحفي المصري. إضافةً إلى أن أسلوب العنف لدى الجماعات الإرهابية بات مختلفاً، وأكثر قوة من حيث التأثير الرمزي والنفسي، فالجماعات الجديدة تستخدم كل التقنيات الإجرامية من: قطع للرؤوس، وتفجير للسيارات، إلى الحروب التقليدية، وحروب الشوارع والعصابات، إلى العبودية والاغتصاب. وتشير الإحصاءات إلى ارتفاع عدد ضحايا العمليات الإرهابية؛ ففي شهر واحد خلال عام 2014 قتلت الجماعات الإرهابية قرابة 5000 شخص، لذلك فإن مؤشر الإرهاب في العالم لعام 2014 ينذر بسيناريو مخيف، (خاصة بالنظر إلى القدرة الكبيرة لدى تنظيم «داعش» على استقطاب الأتباع، دونما حاجة إلى قدومهم للعراق وسوريا) إذ لم تتوقف عملية الالتحاق بالتنظيم رغم ضربات الحلفاء، ومن المتوقع خلال السنوات الخمس المقبلة أن تتحول الحدود من خط «دوراند» حتى مناطق «سايكس بيكو» إلى بؤر إرهابية، كما أن خط تركيا نحو أوروبا وشمال أفريقيا سيكون ممرا للعائدين «الداعشيين» إلى بلدانهم، مع ملاحظة أن الكثير من الدول المصدرة لـ «الدواعش» تجهل هويتهم. ويبقى السؤال المحيّر هو؛ كيف سيكون شكل العالم العربي ما بعد «داعش» ومثيلاتها؟