هنالك من يرى أن اليسار الجديد يصعد الآن في أوروبا مع بداية العام، وهذا اليسار الجديد يمثل المدرسة «الكينيزية»، وهي نظرية اقتصادية معقدة ولكن رؤيتها الأساسية بسيطة ومفادها أن توقفت كل المؤسسات عن الإنفاق فسيتقلص النشاط الاقتصادي العام. وعلى رغم وضوحها الذاتي، فقد خفيت هذه الرؤية على مؤسسات اقتصادية عالمية مثل صندوق النقد الدولي وأيضاً على ألمانيا، القوة الاقتصادية الأوروبية المهيمنة، في التعامل مع الكساد الذي دمر جنوب أوروبا واليونان بصفة خاصة. وفي مواجهة الأزمة الاقتصادية التي بدأت مع انهيار «وول ستريت»، لم تتمكن دول مثل اليونان وإسبانيا من دعم اقتصاداتها بخفض قيمة عملتها لجعل منتجاتها أكثر تنافسية. فهذه الدول ليست لها عملات خاصة بها، بل إن عملتها هي «اليورو» ولا سلطان لها عليه. والطريقة الأخرى التي كان يمكن اتباعها لدعم الاقتصاد عندما كانت بنوكه وأنشطته تترنح ولا تستطيع الاستثمار، كان اتباع النهج الكينيزي المتمثل في توسيع الحكومات استثماراتها بتقديم حوافز، كما فعلت الإدارة الأميركية في مستهل رئاسة أوباما. ولكن الاتحاد الأوروبي الذي تمسك ألمانيا بدفته عرقل هذا الخيار مهدداً بقطع الائتمان والقروض عن جنوب أوروبا ما لم تقلص الحكومات الإنفاق بشدة. وخافت حكومات إسبانيا واليونان، بطبيعة الحال. و«المنطق» المناهض للكينيزية الكامن وراء سياسة التقشف يتمثل في أنه بتشديد الانضباط المالي في أنظمة هذه الدول، ستحسّن تنافسيتها وتعود إلى الرخاء. ولكن التقلص جاء وفق ما توقعه الكينيزيون بالضبط، وهو انهيار اقتصادات هذه الدول مع انحسار الإنفاق الخاص والعام. ومع إصرار ألمانيا على التقشف بشكل أكبر، ظلت هذه الاقتصادات تتدهور. وتعرضت اليونان لثلاث سنوات من الكساد في قسوة كساد عام 1932 وأصبح ما بين 25 و27 في المئة من عمالها بغير عمل، وظلت نسبة البطالة بين الشباب ثابتة عند 50 في المئة ووصلت أحياناً إلى 61 في المئة. والوضع في إسبانيا أيضاً لم يكن أفضل حالًا بكثير. وفاجأ كل هذا المؤسسات التي فرضت نظام التقشف. فقد كان صندوق النقد الدولي يتوقع أن يبلغ أقصى معدل للبطالة في اليونان 12 في المئة. ومع التشبث بالنظرية على حساب الواقع، أصرت هذه المؤسسات على أن المزيد من التقشف سيجعل الاقتصاد يتعافى. وصدقت اليونان هذه النظريات لبعض الوقت، ولكن بعد ثلاث سنوات من المكابدة دون ظهور بارقة أمل في الأفق، نفد صبر البلاد. وفي اليونان وإسبانيا يعارض قطاع كبير من الجمهور سياسات التقشف والأحزاب الرئيسية التي طبقتها. وفي كلا البلدين، تصدرت أحزاب جديدة من اليسار مثل «سيريزا» في اليونان و«بوديموس» في إسبانيا استطلاعات الرأي. ومع حل البرلمان اليوناني في الأسبوع الأخير من 2014 وتحديد يوم 25 يناير لإجراء انتخابات جديدة، من المحتمل تماماً أن يأتي حزب «سيريزا» إلى السلطة محمولاً على أجنحة برنامج يدعو إلى التفاوض بشأن تقليص الديون وإصلاح بعض البرامج الحكومية وتحسين الاستثمار. وإذا رفض الاتحاد الأوروبي مثل هذه المقترحات، فمن المحتمل أيضاً أن تتخلى اليونان عن «اليورو» كعملة مشتركة. وسياسات الاتحاد الأوروبي فرضت على جنوب أوروبا السير عكس كل درس يعملنا التاريخ إياه عن كيفية مواجهة الأزمات الاقتصادية طويلة الأمد. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»