كيف سيكون شعورك أنت العربي غير المكترث كثيراً بلغتك الأم، أو الهاجر لها، حينما تقابلك مواطنة كورية جنوبية تبعد بلادها عن العالم العربي آلاف الأميال ولا توجد قواسم ثقافية مشتركة بينك وبينها فتسمع منها بيتين من قصيدة الشاعر الكبير حافظ ابراهيم في مدح اللغة العربية: أنا البحر في أحشائه الدر كامن ،،، فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني ،،، ومنكم وإن عز الدواء أساتي وذلك كناية عن إعجابها بالعربية، التي تجشمت عناء قطع المسافات الطويلة إلى بلاد العرب، وتحملت الغربة والابتعاد عن الأهل والأحباب من أجل إتقان ما تعتقد أنه من أجمل اللغات؟ لاشك أنك ستصاب بالحيرة والذهول، وستستصغر نفسك أمامها. هذا كان شعوري وأنا أتحدث مع فتاة كورية جنوبية في جامعة الكويت على هامش زيارتي للأخيرة قبل عامين ونيف. إذ فاجأتي الفتاة الشابة، حينما سألتها عما تفعل في الكويت، بالقول إنها جاءت لدراسة اللغة والثقافة العربية، ثم فاجأتني أكثر حينما رددتْ بيتي الشعر سالف الذكر أمامي بنطق سليم، فيما لم أكن أعرف من لغتها سوى عبارة «أنْ يونغ ها سيبو» التي يمكن استخدامها في التحية والوداع والسؤال عن الصحة، و«خامساهاميدا»، التي تعني شكراً. حسبتُ وقتها أنّ تلك الواقعة مجرد مثال فردي على اهتمام الكوريين الجنوبيين بلغتنا، التي حذّر الاستاذ هاشم صالح مؤخراً من احتمال تعرضها لخطر إرهابي حينما قال: «أخطر أعداء اللغة العربية ليسوا أولئك المشككين المغرضين الحاقدين، وإنما المتقعرون المتحذلقون. أخطر أعدائها هم أولئك الذين يريدون منعها من التنفس والتجدد والانطلاق. والله سيخنقونها خنقاً ويقضون عليها قضاء مبرماً لا سمح الله». لكني أقر الآن أن عشق الكوريين الجنوبيين للغة العربية صار ظاهرة آخذة في الاتساع بفضل نمو العلاقات بين بلادهم والأقطار العربية ولاسيما في شقها الاقتصادي والتجاري، وحاجة الشركات الكورية المتعاملة مع أقطارنا إلى مترجمين ومندوبين ومروجين، وحاجة الخارجية الكورية الجنوبية إلى دبلوماسيين يجيدون العربية. في كوريا الجنوبية اليوم هناك خمس جامعات بها أقسام للغة العربية، وعشر جامعات تُدرس العربية كلغة اختيارية. كما تم البدء في تدريسها كلغة ثانية في ثلاث مدارس ثانوية. كذلك تم اعتمادها من بين ثماني لغات أساسية في القبول في الجامعات الكورية، وتعد اللغة العربية الأولى في عدد الطلاب الذين يلتحقون بها مقارنة بثماني لغات (عدا الإنجليزية التي تعد اللغة الثانية في البلاد).والجدير بالذكر في هذا المقام أن تدريس العربية في كوريا الجنوبية، يتم على أيدي أساتذة متخصصين حاصلين على أعلى الدرجات الجامعية مثل الدكتورة «جي هيون كونج» من جامعة «هانكوك» للدراسات الأجنبية في سيئول، وزميلها البروفسور «لي إن سوب»، والأستاذ بجامعة «مايونجي» ورئيس جمعية اللغة والأدب العربي فيها الدكتور «موسى كيم جونج» الذي قام بنشر كتب لتعليم العربية يباع منها أكثر من ألف نسخة سنوياً، طبقاً لصحيفة اللغة العربية. وطالما أتينا على ذكر جامعة «هانكوك» فإنها- طبقا للمستشار في وزارة التعليم العالي السعودي الدكتور عبدالرحمن الداغري، الذي زارها شخصياً - تدرّس 45 لغة في 38 قسماً. ولها اتفاقات مع 131 جامعة دولية، وتدريسها للعربية عمره أكثر من 40 عاماً، وهي الجامعة التي منحت الدكتوراه الفخرية لكل من الاستاذ عبد الله جمعة الرئيس السابق لشركة أرامكو في2007، والأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى في 2010، ووزيرة التجارة الخارجية الإماراتية لبنى القاسمي، ووزير الخارجية السعودي سمو الأمير سعود الفيصل في 2011. ولا يكتفي الكوريون الجنوبيون بدراسة العربية في جامعاتهم، بل يقوم بعضهم بالسفر إلى البلاد العربية من أجل الإطلاع عن كثب على الثقافة والعادات واللهجات العربية، وبالتالي التخصص الجامعي العالي في شؤون منطقة الشرق الوسط. ومن الأمثلة التي تناولتها وسائل الإعلام نقلا عن تقرير لقناة «الجزيرة»- عاشق الأدب العربي الكلاسيكي والمتعاطف مع القضايا العربية الشاب الكوري المسيحي «جون كيم» البالغ من العمر 37 عاماً. فهذا يتحدث العربية الفصحى اليوم بطريقة سليمة، وأكمل قراءة مقدمة ابن خلدون وكتاب كليلة ودمنة وغيرهما، ويعود تاريخ تعرفه على العربية إلى عام 2005 حينما وفد إلى الجامعة الأردنية فتعلمها. باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين