كان 2011 العام الذي أبصرت فيه النور دولة جنوب السودان، وسط احتفالات بهيجة وترحيب دولي واسع ووعود سخية بتقديم المساعدة، لكن هذه الوعود مهددة اليوم إذا لم يتدارك قادة البلد الأخطاء ويظهروا قدراً أكبر من القيادة والمسؤولية، فقد انطلق العنف هناك في ديسمبر الماضي مخلفاً آلاف القتلى في صفوف الرجال والنساء والأطفال، وفاتحاً جروحاً وانقسامات عرقية مريرة. ومنذ اندلاع المعارك نزح ما لا يقل عن مليوني شخص عن منازلهم، فيما يواجه سكان مناطق أخرى من البلاد شبح المجاعة. وبالنسبة لبلد يزخر بالفرص الواعدة، مثل جنوب السودان، ويجر وراءه عقوداً من الصراع، كان للعنف والمعاناة الأخيرة تأثير مدمر، لاسيما وأن هذا العنف لم يفرض على البلد من الخارج، بل كان نتاجاً الخلافات السياسية المستحكمة بين النخب المحلية. وتظل المسؤولية ملقاة على عاتق قادة جنوب السودان لحقن الدماء وإعادة اللحمة إلى نسيج المجتمع، فبعد شهور من التأخير والمماطلة، على طرفي الصراع العودة إلى طاولة المفاوضات، وتقديم التنازلات الضرورية، وإنهاء المعارك دون إبطاء. فما تم حتى الآن من تعهدات فضفاضة وكلمات معسولة لا يكفي لوقف الحرب المستمرة، في حين تتواصل معاناة الناس بسبب الصراع المتواصل. وحتى يتحقق التقدم المنشود سيكون من الضروري تشكيل حكومة انتقالية تتولى إعادة تأهيل أجهزة الأمن لحماية جميع مواطني البلاد بصرف النظر عن انتمائهم الإثني أو توجههم السياسي. هذه الحكومة سيكون عليها أيضاً تطوير نظام شفاف لإدارة موارد البلاد والتوافق على عملية لصياغة الدستور تركز بالأساس على تطوير الحكامة. وبالنظر لحدة العنف في الفترة السابقة، والآلام التي أحدثها، يتعين إطلاق خطة للمصالحة ترافقها جهود حثيثة للتحقيق في الفظائع المرتكبة، وضمان محاسبة المتورطين فيها. وإذا كان شعب جنوب السودان له عدد وافر من الأصدقاء حول العالم، فإنه لا أحد من هؤلاء الأصدقاء أكثر التزاماً بمستقبل البلد من الولايات المتحدة، غير أن فوائد هذه الصداقة لن تتبلور على أرض الواقع ما لم يتحمل قادة جنوب السودان مسؤولياتهم، ويثبتوا نضجهم بتغليب مصلحة الشعب على مصالحهم الخاصة. وفي هذا الإطار، عبأت الولايات المتحدة وبقية الشركاء الدوليين جهوداً كبيرة في المجال الإنساني، مدعومة بقوة حفظ السلام الأممية التي غامر أفرادها بحياتهم لإنقاذ الناس، وتشجيع الفرقاء على المصالحة وإنهاء الأعمال العدائية، كما لن تتوقف الضغوط الأميركية والإقليمية على الأطراف المتصارعة لتحقيق المصالحة، وإنهاء المعارك، مع التأكيد على أن أي استمرار للعنف سيواجه بردود فعل دولية صارمة. هذا، وما عاد السلام في جنوب السودان ترفاً، بل أضحى ضرورة ملحة في ظل مخاطر المجاعة المحدقة بالسكان هناك، فالمجاعة وإن لم تكن غريبة عن المنطقة، فإنها على ضوء المعارك ستتفاقم وتصبح أقرب مع تعطيل الدورة الزراعية، وتحويل أراضي الرعي إلى ساحات للمعارك، كما تصبح مواكب الإغاثة الإنسانية هدفاً للمقاتلين، لذا ومع مرور الأيام تتزايد أعداد الجوعى ولن تتوقف عن التزايد إلا بإخراس صوت السلاح. واليوم، وبمناسبة مرور سنة على اندلاع العنف في جنوب السودان، يتعين تقديم التحية للرجال والنساء الذين لم يفقدوا الأمل بعد في مستقبل البلاد، وما زالوا يعملون بجد لتحقيق السلام. ولأننا زرنا جنوب السودان في مناسبات عديدة، فنحن نعرف جيداً ما تنطوي عليه البلاد من إمكانات يتعين استغلالها بدل تبديدها في صراعات دموية، وما زالنا نذكر التفاؤل الكبير الذي كان يبديه الناس هناك، وهم يستعدون لإطلاق مشروع الدولة الجديدة والانخراط في عملية البناء.. ليبرز السؤال حول ما إذا كان قادة البلاد سيمعنون في تدمير البلد عبر الاستمرار في الحرب، أم أنهم سيتوافقون على حل يضمن مستقبل الأجيال القادمة بعيداً عن الدمار والمعاناة؟ سوزان رايس: مستشارة الأمن القومي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»