أصدرت منظمة الصحة العالمية نهاية الأسبوع الماضي، نشرتها السنوية المعروفة بـ«التقرير العالمي عن السل (Global Tuberculosis Report)، والذي يعتبر التقرير التاسع عشر منذ عام 1997، الذي تنشره المنظمة الدولية لتوصيف الوضع الدولي عن معدل الإصابات بهذا المرض اللعين، وعن عدد الوفيات الناتجة عنه. وحمل التقرير الأخير العديد من البيانات والمعلومات المثيرة؛ التي ربما كان من أهمها رفع تقديرات عدد الإصابات في عام 2013 إلى 9 ملايين شخص، مقارنة ب8.6 مليون عام 2012، أي بزيادة قدرها 400 ألف حالة. كما ارتفع عدد الوفيات من 1.3 مليون شخص عام 2012، إلى 1.5 مليون وفاة عام 2013، منهم 360 ألفاً من المصابين بمرض نقص المناعة المكتسب، أو الأيدز. وعلى الرغم من ضخامة عدد الوفيات هذا، إلا أنه يشكل انخفاضاً ملحوظاً، وبنسبة 45 بالمئة عن معدلاتها عام 1990، كما أن عدد الإصابات انخفض هو الآخر بمقدار 1.5 بالمئة منذ ذلك التاريخ. وتظهر هذه الأرقام أن الجنس البشري ما زال يرزح تحت وطأة أحد أقدم الأمراض المعدية المعروفة، والذي ما زال أيضاً يحصد ثمناً إنسانياً هائلاً، حيث يحتل السل حالياً المرتبة الثانية على قائمة الأمراض المعدية فتكاً بالبشر، وهي القائمة التي لا يسبقه عليها مرض آخر، ما عدا الملاريا. والسل هو مرض معدٍ، وقاتل في كثير من الأحوال، يتسبب فيه نوع خاص من البكتيريا يصيب غالباً الرئتين، وإنْ كان يمكنه كذلك إصابة أجزاء أخرى من الجسم. وتقع العدوى من خلال الرذاذ الناتج عن سعال، أو عطس، أو بصق الشخص المصاب بالحالة النشطة من المرض، حيث يتسبب المريض الواحد في انتقال الميكروب إلى ما بين عشرة إلى خمسة عشر شخصاً آخر سنوياً. ويعتبر السل واحداً من ثلاثة أمراض تشكل ما يمكن أن نطلق عليه محور الشر الطبي، الذي يتضمن أيضاً كلاً من الملاريا والأيدز. ويعتبر غياب التشخيص بالإصابة، أحد أهم العقبات التي تواجه المنظمات الصحية الدولية والوطنية، الساعية للسيطرة على المرض، والحد من انتشاره، حيث يظهر التقرير الأخير الصادر عن منظمة الصحة الدولية أن نحو 3 ملايين شخص لا يدرون بإصابتهم بالمرض من الأساس. وهو ما يمنح الفرصة للميكروب لإحداث ضرر أكبر بجسد المريض، في ظل عدم تلقي علاج يحد من نشاطه أو يقضي عليه، كما أنه يسمح بانتقاله بين شخص وآخر، وهو ما يفسر استمرار انتشار المرض وإصابته للملايين، وتسببه في وفاة 1.5 مليون، غالبيتها وفيات كان من الممكن تجنبها. وتسعى مجموعة من العلماء في جامعة «نيو مكسيكو» بالولايات المتحدة لحل هذه المشكلة، على حسب نتائج دراسة نشرت نهاية الشهر الماضي في إحدى الدوريات العلمية المرموقة (Nature Communications). فعلى حسب هذه الدراسة، قام العلماء بإعطاء نوع خاص من المضادات الحيوية (Isoniazid) يستخدم لعلاج المرض، لمجموعة من الأرانب المصابة بالميكروب، ثم قاموا بقياس نوعية الغازات الناتجة من رئاتهم. وما اكتشفه العلماء أن تعاطي هذا المضاد الحيوي -إن كان الميكروب حساساً تجاهه- يتسبب في إنتاج بصمة غازية مميزة، عندما يدخل العقار إلى داخل الميكروب، ويتحول إلى الحالة النشطة. ويستغرق هذا الاختبار عشر دقائق، ولا يكشف فقط عما إذا كان الميكروب موجوداً أم لا، بل أيضاً إذا ما كان حساساً تجاه هذا المضاد الحيوي بالتحديد. وهو ما إذا ثبت نجاحه عند تجربته على البشر، فسيشكل اختراقاً مهماً، في ظل حقيقة أن الاختبار الشائع الاستخدام حالياً لكشف وجود الإصابة، ومدى حساسية الميكروب، بالاعتماد على الزراعة في أطباق المعامل، يستغرق ما بين 4 إلى 6 أسابيع. وخلال هذه الفترة يحتمل أن يكون المريض لا يتلقى المضاد الحيوي المناسب، كما أنه يصبح خلال هذه الفترة مصدر عدوى للآخرين. ويتماثل هذا الاختبار مع اختبار آخر، باسم (GeneXpert)، كان قد حصل قبل بضعة أعوام على دعم وتأييد منظمة الصحة العالمية، ويعتمد على تحليل المادة الوراثية للميكروب في غضون ثلاث ساعات، لبيان ما إذا كان حساساً ضد أحد أنواع المضادات الحيوية الأخرى المستخدم في العلاج. ولكن يعيب هذان الاختباران أنهما يكشفان عن درجة الحساسية لنوعين فقط من المضادات الحيوية، ولا يجديان نفعاً في محاولة معرفة مدى حساسية الميكروب لجميع المضادات الحيوية المتوافرة المستخدمة في العلاج، حيث لا بد حينها من اللجوء لطريقة الزراعة المخبرية التقليدية، والتي تستغرق وقتاً طويلاً. وتشكل معرفة وتحديد أنواع المضادات الحيوية التي يستجيب لها الميكروب نقطة بالغة الأهمية في جهود مكافحة مرض السل، وفي نجاح إجراءات التحكم والوقاية، نتيجة الارتفاع المتزايد في معدلات الإصابة بأنواع الميكروب المقاومة لجميع أنواع العلاج المتاحة، مما يجعلها غير قابلة للعلاج تقريباً. فعلى الرغم من موجة التفاؤل التي سادت المعنيين بجهود مكافحة مرض السل على الصعيد الدولي خلال العقدين الماضيين، انطلاقاً من نجاح استراتيجية مكافحة المرض خلال تلك الفترة، والمنسوب إليها إنقاذ حياة 20 مليون شخص بين عامي 1995-2011، إلا أن موجة التفاؤل تلك، قد شهدت انحساراً ملحوظاً مؤخراً، بسبب زيادة قدرة الميكروب على مقاومة العديد من المضادات الحيوية المستخدمة ضده، وهي المشكلة التي يؤمل أن تنجح الأساليب الجديدة المبتكرة في تخطيها.