الغول الطائر
في زيارة لإحدى العيادات، وكانت الأدخنة ما تزال تتصاعد من أبنية 11 سبتمبر 2001، فوجئت بالطبيب في أثناء حديث عرضي يقول بتأثر إنه يرى النور في وجه «بن لادن»! ولأن النور لا يكون إلا في وجوه الأبرار، وكان «بن لادن» حتى لحظة ابتلاعه «اللمبة»، متورطاً على الأقل في تفجيرات دار السلام ونيروبي التي راح ضحيتها المئات من المسلمين، فقد أخرسني الموقف وخرجت مذهولًا.
وفي ذروة حرائق العراق سنة 2005، التقيت في مهمة عمل مديراً لشركة كبرى، رجل على أعتاب الستين، لا تبدو عليه مظاهر التدين، بل كانت قفشاته توحي بأنه يعيش حياته طولًا وعرضاً. وأخذنا الكلام إلى تفجيرات «الزرقاوي»، فقال «أبو القفشات» بجديّة أب فخور بابنه العظيم: لا أدري لم أُحبُّ هذا الرجل! وقبل أن أستوعب الموقف، انبرى مساعده الذي كان حاضراً، وهو ستيني عريق، وقال إن قريباً له «استشهد» في عملية تفجيرية، وأنه كان دائم الإشادة بأبي مصعب.
تذكرت هذين الموقفين وأنا أقرأ تساؤلات بعضهم بشأن جدوى مشاركة بعض الدول الخليجية في التحالف الدولي لدحر «الدواعش»، والتخويف من تداعيات مشاركتها في معركة ممتدة ومفتوحة على كل الاحتمالات. وقد تخطر مثل هذه التساؤلات ببال شخص يعيش في نيوزلندا أو الإكوادور، لكن كيف لا يدرك بعدُ، ابن هذه المنطقة، خطر الإرهاب وخطابه الذي يُسكِر حتى بعض الأشخاص البعيدين جداً عن أوكاره، والذين يعيشون حياتهم طولًا وعرضاً، والذين خِبروا الحياة وعُجنوا فيها، فكيف بمن هم أقرب لقيم الجهل وثقافة الموت والاندفاع؟!
هناك رأي لا يزال يُردد بأنه لابد من مواجهة فكرية للتطرف بالتوازي مع مواجهته بالقبضة الحديدية، وكان هذا الرأي مقبولًا قبل عقد من الآن، حين بدأت المواجهات الأمنية ولم تكن هناك علاجات أخرى، لكن دول الخليج بالذات بدأت تعمل للسيطرة على التطرف على أكثر من صعيد، وكل ما في الأمر أن الإرهاب يطوّر نفسه كأي فيروس مميت يجد له البشر لقاحاً، ويجدد خطابه بمعادلاته القائمة على ثنائية الأمور، ويجد دائماً مبررات جديدة، ونتذكر كيف أعادت الوحشية الطائفية في سوريا، الروح في جسد الإرهاب الذي كان رمزه الأول يقبع آنذاك في قاع بحر العرب.
لكن الذي استجد في الأمر، أن العالم كله أُسقط في يديه من «داعش» التي تجاوزت كل الحدود، حرفياً بهدم حدود الدول بالجرافات، ومعنوياً بممارساتها التي دفعت الناس إلى الترحم على زمن الإرهاب «الجميل»، ولم تجد الدول الخليجية بُداً من التوجه إلى ملاذات «الدواعش» وضربهم هناك، وأصبح التخويف من تداعيات هذه المعركة، ضرباً من التخاذل أو «الاستعباط» أمام تداعيات الاكتفاء بمراقبة ما يحدث.
«داعش» ليست غولاً يفترس الناس بين الحدود السورية والعراقية، حتى نقول إننا غير معنيين بمواجهته، باعتبار أننا نتخيل الغول كائناً ضخماً يحتاج وقتاً طويلاً ليقطع المسافات، ويمكن حشد القوات العسكرية على الحدود لضربه إن اقترب.. بل هو فكرة تطير في الهواء.
ورغم أن طيران الفكرة لا يشكل تهديداً ما دامت المطارات تمنع هبوطها، فإن الحقيقة المحزنة أن من رأى نوراً خافتاً في وجه بن لادن، سيرى الأنوار تشعّ من وجه البغدادي. ومن أحب الزرقاوي المتخفي بين الخِرب، سيغرم بأمير «داعش» الذي يعتلي المنابر ويصدر الفرمانات، محولا الهذيان حول «الخلافة» إلى دولة لديها وجود مسلح، وإن لم يكن لديها وجود قانوني في نظر العالم الذي لا ينتظر المرضى، وما أكثرهم، اعترافه أساساً.