مع مرور الزمن على أسوأ صراع بين روسيا والغرب منذ الحرب الباردة، فر المستثمرون وارتفعت أسعار الأغذية وعلا صوت الصفوة الاقتصادية الروسية التي تدعو إلى تفادي تكرار سوء إدارة الاقتصاد التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي. فالعقوبات الغربية عرقلت تمويل بعض المشروعات الاقتصادية الروسية العملاقة، ومنعت وصول التكنولوجيا الحيوية المطلوبة لقطاع الطاقة في البلاد. لكن ليس هناك إلا القليل من الأدلة على أن الضغوط الاقتصادية المتصاعدة منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، في مارس الماضي، سوف تخفف حدة سياسات بوتين تجاه أوكرانيا والدول الأخرى في فلك الاتحاد السوفييتي. ومازال بوتين يتمتع بمستويات تأييد مرتفعة للغاية والروس العاديون يقولون إنهم مستعدون للتضحية في معركة مع الغرب. وارتفعت أسعار اللحوم والخضراوات بشدة بسبب الحرب الاقتصادية مع الغرب. وتقلص السفر إلى الخارج سريعاً لدرجة أن العشرات من شركات السفر أفلست هذا الصيف، مما ترك بعض السياح تتقطع بهم السبل في تركيا ومصر. وخصصت الحكومة جزءاً من صناديق معاشات المدخرين الروس لدعم شركات البلاد. وروسيا تنزلق بسرعة إلى ركود اقتصادي، ويتوقع محللون أن يكون النمو هزيلا في عام 2014، وأن يبدأ الكساد في الربع الأخير من العام. وتتهاوى أسعار النفط الذي تعتبر عائداته عماد ميزانية روسيا. وسحب مستثمرون ما يقرب 75 مليار دولار من البلاد في أول ستة شهور من العام. ويتوارد المزيد من الأنباء السيئة كل يوم. فقد انخفض سعر الروبل عشرين في المئة منذ بداية العام وانزلق إلى مستويات أدنى من ذلك هذا الأسبوع. وصرف البنك المركزي الروسي ما لا يقل عن ثلاثة مليارات دولار مؤخراً لكبح تراجع سعر الروبل في استنفادٍ لاحتياطي البلاد الذي مازال كبيراً من العملة الأجنبية. وتصاعدت مخاوف الصفوة الروسية الثرية بعد فرض الإقامة الجبرية في منتصف سبتمبر على فلاديمير يفتوشينكوف، بناءً على اتهامات بغسل الأموال. ويعتقد رجال أعمال آخرون أن عملية الاحتجاز تدل على العصف بأحد المبادئ المحورية لعصر بوتين، وهو السماح لأصحاب الأعمال الكبار بجمع ما طاب لهم من المال طالما أنهم لا يتدخلون في السياسة. وكان يفتوشينكوف متمسكاً بهذا المبدأ، لكن رفضه التخلي عن نصيبه في شركة باشنفت النفطية المربحة جعل منه هدفاً. ويعتقد جريف جيرمان، كبير المديرين التنفيذيين لأكبر بنك في روسيا وهو «سبيربنك»، أن الاتحاد السوفييتي انهار بسبب «عدم كفاءة القيادة السوفييتية التي لم تحترم قوانين التنمية الاقتصادية». وكانت الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات على سبيربنك. ودعا جيرمان إلى عدم السماح بتكرار ما حدث. وسعى بوتين إلى التقليل من شأن المخاوف، قائلا: «لطالما كافحنا كي تتطور روسيا لتصبح اقتصاداً قائماً على السوق المفتوح وسنواصل هذا. مازال المسار الاستراتيجي كما هو، لم يتغير». لكن بوتين ترك المجال مفتوحاً بشأن ما إذا كانت الحكومة تعتزم السيطرة على بعض الشركات الروسية المحورية التي تمت خصخصة الكثير منها في التسعينيات أثناء الاندفاع نحو السوق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ضمن صفقات افتقرت للشفافية وامتلأت فساداً. ودأب بوتين على إدانة عدم استقرار وفساد تسعينيات القرن الماضي، لكنه لم يمس إلى حد كبير الشركات التي تمت خصخصتها طالما أن مالكيها لا يتدخلون في السياسة. وتحدث بعض المستشارين الأمنيين لبوتين، وهم مجموعة من زملائه السابقين حين كان في جهاز الاستخبارات السوفييتي (كي. جي. بي) عن تسخير الاقتصاد لخدمة حاجات الدولة وليس حاجات أصحاب الأعمال والأفراد. وهذا النهج يساعدهم على حشد الموارد الضرورية لمواجهة الغرب، كما أنه يجسد مخاوف رجال الأعمال الروس الذين يشاهدون قضية يفتوشينكوف الذي أدرجته «فوربس» في المرتبة الخامسة عشرة وسط أغنياء روسيا. وهو أغنى روسي تستهدفه الحكومة منذ اعتقال ميخائيل خودوروكوفسكي عام 2003، والذي كان يمول المعارضة السياسية الروسية. وحرص يفتوشينكوف على الابتعاد عن السياسة، لكن شركته القابضة «سيستيما» تمتلك حصة في شركة باشنفت الإقليمية النفطية التي تريد شركات مملوكة للدولة الاستحواذ عليها. وانتقد علناً بعض أكبر أصحاب النفوذ في روسيا احتجاز يفتوشينكوف. حتى الوزراء انتقدوا بحذر الأوضاع، وهو صدع نادر في النظام السياسي الروسي الرأسي التراتب. ونقلت وكالة أنباء «انترفاكس» عن وزير الاقتصاد الروسي أليكسي أوليوكاييف قوله بعد عملية الاحتجاز، إن فرض الإقامة الجبرية يؤثر سلباً على «مناخنا الاستثماري وهو سيئ للغاية». ويعتقد أصحاب أعمال ومحللون أن الاحتجاز أحدث قشعريرة في أبدان الصفوة الاقتصادية الروسية التي تخشى أن يكون احتجاز يفتوشينكوف نذيراً بأن لا أحد في مأمن من نفس المصير. ويرى خبير اقتصادي اشترط عدم نشر اسمه أن احتجاز يفتوشينكوف أكثر ترويعاً من اعتقال خودوركوفسكي، لأن الناس كان بوسعهم تبرير اعتقال خودوروكوفسكي بكون الأخير فعل أشياء ما كان يجب فعلها، «لكن يفتوشينكوف فعل كل ما هو صواب»، ورغم هذا احتجز. ويعتقد بعض المحللين أن واقع الاقتصاد قد يجبر بوتين على تخفيف حدة موقفه في أوكرانيا التي تمثل محور صراع أوسع نطاقاً مع الغرب. ويرى فلاديمير ريجكوف، المحلل السياسي والنائب البرلماني المعارض السابق، أن خطاب بوتين أصبح أقل حدة مما كان عليه قبل ثلاثة شهور لأن «المشكلات الاقتصادية تتفاقم بسرعة شديدة». لكن آخرين يتوقعون أن تنزلق روسيا في فترة من التوعك الاقتصادي الذي لن يغير كثيراً في خططها المالية الأساسية. ويعتقد سيرجي جورييف، المحلل الاقتصادي الروسي من معهد الدراسات السياسية في باريس، أن المستثمرين تعلموا أن النمو الاقتصادي ليس أولوية لدى بوتين الذي إذا خير بين النمو الاقتصادي والقرم سيختار القرم. مايكل بيرنباوم- موسكو -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»