لم يكتسِ التنديد الشائع حالياً بالتطرف الديني أهمية أكبر مما هو عليه الآن في وقت يواصل فيه «داعش» صعوده الدموي في العراق، وتبث جماعات أخرى، مثل «بوكو حرام» الرعب في نيجيريا، لكن الأمر لا يقتصر على دين دون غيره، أو عقيدة دون سواها. ففي روسيا مثلاً نجد أن الرئيس فلاديمير بوتين، تعاقد مجدداً مع المسيحية لتبرير ميوله الإمبريالية في شرق أوروبا، كما أن عدداً من حاخامات اليهود البارزين تجاهلوا الصراع التقليدي بين اليهودية والصهيونية الذي نشأ في القرن التاسع عشر ليرخصوا، في أطروحاتهم الجديدة، لمشروع الاستيطان بالضفة الغربية. والأكثر من ذلك أن هذا الصعود في التشدد الديني والانغلاق العقائدي لا يقتصر على الديانات التوحيدية، بل يمتد إلى ما سواها، بصرف النظر عن تصريحاتها العلنية بالالتزام بالتعددية والتسامح، فقد رأينا على مدى العقدين الماضيين كيف سعى القوميون الهندوس إلى الدفع بآرائهم من خلال ارتكاب أعمال عنف فظيعة تستهدف الأقليات والمخالفين في الرأي، ولا يختلف عنهم البوذيون كثيراً، حيث قاد عدد من رجال الدين البوذيين أعمال قتل في سريلانكا وميانمار، وفاخروا بمشاركتهم كجنود في حملة تايلاند لمحاربة الانفصال في المحافظات الجنوبية، والحقيقة أنه إذا كانت هذه «العودة» المظفرة للدين تصدمنا، فذلك لأننا تسرعنا في كتابة نعيه. فقد اعتقد عدد من المفكرين الغربيين من ماركس إلى ماكس فيبر أن الديمقراطية والنمو الاقتصادي والتكنولوجيا الجديدة، والثقافة الشعبية كلها أمور كفيلة بإبعاد الناس عن الدين وفطمهم عن كل ما هو غيبي ليدخلهم التطور التاريخي والتراكم المعرفي في عالم جديد يقوم على العلمانية، وفيما كانت عملية التحديث تنتقل من الغرب إلى بقية أنحاء العالم اعتقد البعض أن الحداثة ستطرق أبواب المناطق البعيدة لتؤثر بدورها على الدين، وتخفف من حضوره في الحياة العامة. والحال أن الدين بالنسبة للعديد من سكان العالم ظل حاضراً بقوة، واستمر في لعب أدواره التقليدية وتأطير الخطاب العام حول المجتمع والسياسة والقانون والحياة العامة، ومدها بمفردات النقاش والسجال، بل إن الاقتحام الغربي لسائر العالم جاء أحياناً بنتائج عكسية، فبدلاً من تسريع عملية التحديث، تمثلت ردة الفعل خلال القرن التاسع عشر في إعادة استخدام الدين وتأويله ليصبح ثورياً أكثر، ويستجيب للحاجة السياسية آنذاك والمتمثلة في مواجهة المد الغربي والحفاظ على الهوية، وهكذا تعالت الأصوات الداعية للجهاد ضد الحكم البريطاني في الهند، وبرزت حركة «المهدي» في السودان، فضلاً عن حالات أخرى عديدة من التعبئة ضد الغرب الغازي، كما أن عدداً من القادة والمفكرين خارج العالم الإسلامي أعادوا تنظيم الهندوسية والبوذية كمصدر للفخر الوطني، وأساس للتضامن وتشكيل هوية جامعة في عالم متغير. وفي العديد من الحالات تحولت تلك الحركات القومية والدينية إلى تشكيلات سياسية، وانتقلت من مجرد أصوات هامشية إلى تنظيمات قادرة على الحشد والتأثير في الناس، مثل البوذيين القوميين في سريلانكا، وحركة «الهند الموحدة» التي اختطفت الخطاب القومي المعتدل في الهند، ومالت به نحو اليمين، واللافت أنه حتى الحركات القومية التي تبدو علمانية في ظاهرها لم تبتعد كثيراً عن الدين، حيث استعارت منه الطقوس والرمزية، مثل الإيمان بالخصوصية الثقافية، وإنشاء عقيدة سياسية شبيه بالدين تشمل طقوساً يتخللها ترديد الأناشيد الوطنية وتحية العلم. وقد وصلت هذه الرموز والسرديات الدينية إلى الغرب العلماني، فلا ننسى كيف اقترنت القومية الإيرلندية على سبيل المثال بالكاثوليكية، وكيف ترافقت الثورة الأميركية بازدهار ملحوظ للكنيسة البروتستانتية، وحتى فرنسا الجمهورية التي تعد مهد التقدمية والعلمانية، أشار رئيسها السابق، نيكولا ساركوزي، في تصريح لافت إلى حقيقة اعتبرها مؤكدة عندما قال، إن جذور أوروبا تبقى في الأساس مسيحية، أما في بريطانيا، فتظل الملكة إليزابيث رئيسة كنيسة إنجلترا، وإلى اليوم تواصل الحكومة الألمانية تمويل الكنائس، وتسمح لها بفرض ضرائب على أعضائها، كما أن الفصل المنصوص عليه في الدستور الأميركي بين الدولة والكنسية لا يمنع الدين من أن يمارس تأثيره في السياسة، وليس أدل على ذلك من اعتماد السياسة الخارجية على خطاب تبشيري. ومن الواضح أن الثقة العمياء في قدرة العلمانية وعملية التحديث على قهر الدين أثبت خطلها، إذ يبقى هذا الأخير موجوداً سواء في الغرب، أو الشرق، والأسوأ من ذلك أن هذه الثقة تحول دون مساءلتنا لفكرة الوجود العلماني الخالص، فالصهيونية مثلا كانت معادية للدين في أصولها الأوروبية، لكن أهدافها الأساسية اليوم والمتمثلة في «الرجوع إلى أرض الميعاد» وإحياء اللغة العبرية تنهل من المعين اليهودي، كما أن المزاعم التي تروجها حركة «الهند الموحدة» والخريطة السياسية التي ترسمها لمنطقة جنوب آسيا الموحدة، كانت تلقى الدعم والتأييد من علمانيي حزب المؤتمر كما من متعصبي القوميين الهندوس، وإذا كان البعض قد تسرع في إعلان التفوق الأخلاقي للعلمانية باعتبارها تمنع الاقتتال الديني والطائفي، إلا أنه من المفيد التذكير أن «داعش» ترتبط بتنظيمات علمانية متطرفة، مثل «الخمير الحمر» أكثر من ارتباطها بتاريخ الإسلام، لذا يتعين علينا إعادة النظر في أسباب العنف المتفشي في عصرنا الراهن، والابتعاد قليلاً عن التفسيرات الجاهزة للعلمانيين المتحمسين الذين لا يترددون في الإشارة بأصابع الاتهام للتطرف الديني. بانكاج ميشرا كاتب ومحلل سياسي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»