ينطوي الاستفتاء الاسكتلندي الذي أجري الخميس الماضي حول استقلال اسكتلندا وحُسم بأغلبية ضئيلة لمصلحة الاتحاديين، على قضية تفوق في أهميتها تحديد الطرف الذي سيحتفظ بالأسلحة النووية البريطانية، أو الذي سيستولي على الحصة الكبرى من آبار نفط بحر الشمال التي يقع معظمها ضمن المياه الإقليمية الاسكتلندية لو أن الاستفتاء أتى بنتيجة معاكسة. وإن لمن الواضح كل الوضوح بالنسبة لكل من يتعمّق في فهم الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في اسكتلندا، أن هذه المسألة تتعلق قبل أي شيء بالانتماء والهوية الوطنية. ولا شك أن الأمر يتعدى من حيث مدى أهميته، تحديد من هو إنجليزي بحق، أو مدى تأصل المشاعر الحضارية السلتية (الهندية الأوروبية القديمة) في ضمائر الاسكتلنديين لو أنهم انفصلوا عن جيرانهم الجنوبيين. ولعلّ من أهم الجوانب الأخرى لهذا الموضوع المعقد هو ذلك الذي يتعلق بالواقع السياسي والاقتصادي الراهن للبريطانيين، وبمستقبلهم على المدى القريب والبعيد. ولو كتب للجسم البريطاني أن يفقد أحد «أطرافه»، وهو ما كان سيحدث لو أن الاسكتلنديين صوتوا بـ«نعم» للانفصال الخميس الماضي، لبرزت إلى حيز الوجود مشكلة إعادة بناء الشعور الجديد بالمواطنة وتحديد صلة النسب بين المقيمين القدماء والجدد فوق أراضي الجزر البريطانية. كما أن هذا التطور قد يحمل في طياته مخاطر زيادة مشاعر النفور لدى شرائح الشبّان والشابات صغار السن وتشجيعهم على البحث عن طموحاتهم وراء البحار. وهذا توقع مخيف مع تواتر الأخبار عن مقاتلين صغار السن غادروا بريطانيا بالفعل من أجل القتال في سوريا. ولهذا السبب كان من الواضح أن من الخطأ الكبير إجراء استفتاء حول مصير بريطانيا العظمى بين الاسكتلنديين الذين لا يزيد عددهم على 5 ملايين أو ما يعادل أقل من 10 بالمئة من سكان بريطانيا كلها. وتكمن أعظم الفوائد وأكثرها أهمية في كون الإنسان «بريطانياً» كشأني أنا، في أن هذا التعريف يحمل المعنى «التراكمي المثالي» بأكثر مما يحمل من معانٍ تتعلق بالانتماء والهوية الوطنية. وقبول الإنسان بأن يكون «بريطانياً» لا بدّ أن يترافق مع الاعتقاد، أو حتى القبول على أقل تقدير، بالقيم الأساسية المشتركة التي يتمسك بها البريطانيون مثل تكريس الحرية الفردية والعدالة. وهذه الحقيقة بحد ذاتها لا تفرض عليك أن تعشق «رقصة موريس الشعبية البريطانية» حتى تكون بريطانياً مخلصاً. وهذا بالضبط ما يفسر السبب الذي يجعل أسهل على المرء أن يكون بريطانياً بنجلاديشياً من أن يكون اسكتلنديا سودانياً أو إنجليزياً إثيوبياً (ويمكن لأي أميركي إيطالي أو أميركي إيراني أن يدرك ذلك بسهولة). وهذا يعني بكلمة أخرى أن «انتماءك المكتسب» غير الأصيل لوطن غير وطنك، يرتبط أساساً بإعجابك وقبولك بالقيم الحضارية والاجتماعية والإنسانية السائدة فيه، ولا يشترط عليك الالتزام والإيمان بالأسس والتعاليم التي يقوم عليها تراثه الثقافي. ولقد وعت النُخب البريطانية المنشغلة بوضع القوانين والتشريعات لتوّها، أهمية بناء وتشجيع هذا النوع من الشعور الأوسع بالانتماء الوطني والذي يتقاسمه الآن معظم الأميركيين (على سبيل المثال). ومثلما حدث في الولايات المتحدة، التي قامت على أساس قبول كل مواطنيها والمقيمين على أرضها والوافدين المهاجرين إليها، بالقيم الحضارية والإنسانية المشتركة التي تعتنقها الدولة، وليس على أساس القرابة الجينية الوراثية القائمة بينهم، فلقد أصبحت بريطانيا وبقية الدول الأوروبية كيانات متعددة الثقافات، حتى قبل أن تعتنق فلسفة التعددية الثقافية. وحول هذه النقطة المهمة بالذات، كتب الفيلسوف والمؤرخ البريطاني «كينان مالك» يقول: «لا بد من تأكيد أن (التعددية الثقافية) تمثل في حقيقة الأمر سلوكاً حياتياً عملياً لا بدّ له أن يؤدي إلى إثراء حياتنا كلها. ولقد ساعدت التعددية الثقافية باعتبارها أيديولوجيا سياسية على خلق (بريطانيا القبلية) التي تخلو من أي مركز للقرار السياسي أو الأخلاقي». وبعد أكثر بقليل من عقد مضى، وبالضبط بعد تاريخ 11/ 9/ 2001 المشؤوم، أطلقت حكومة حزب العمال البريطانية جهودها المكثّفة لتكريس هذا الواقع السياسي والأخلاقي، عن طريق التركيز على أن المبررات التي تدفع المرء إلى الشعور بأنه بريطاني تفوق بكثير المظاهر الجسدية أو الأحيائية التي تؤيد هذا الشعور، كسمك الشفاه أو لون الشعر. وفي عام 2005، أطلقت بريطانيا اختباراً لإجراءات الحصول على «حق المواطنة» في المملكة المتحدة بما فيها الخضوع لشعائر التطبيع التي يتم فرضها على المترشحين الجدد ممن سيكتسبون هذا الحق، من خلال ترديد قسم «الولاء للمملكة المتحدة»، وبأنهم «سوف يحترمون كافة مبادئ صيانة الحقوق والحريات المدنية المعمول بها، وسيلتزمون بأداء كافة الواجبات المترتبة عليهم كمواطنين بريطانيين». وواجهت الطاقم الحكومي الذي تولى تنفيذ هذا الاختبار مشكلة تحديد نوعية المعلومات والمعارف التي يُطلب من القادم الجديد أن يكون ملمّاً بها حتى يصبح «بريطانياً معاصراً متعدد الثقافات»، واشترطت أن يخوض اختباراً للتعرف على خبراته العملية ومعارفه التاريخية، بالإضافة للقليل من المعارف الثقافية المتعلقة بالتراث والموروثات الثقافية الوطنية. وأصدر الطاقم الحكومي أيضاً كتيّباً يتضمن الطرق السهلة للتصرف مع المواطنين الأصليين. وخلال العام الماضي، صدرت نشرة جديدة من هذا الاختبار بعد أن تم تعديله وتحديثه والذي سيسأل البريطاني الجديد عن الكثير من المعلومات الثقافية المتعلقة بالمملكة المتحدة، وتتراوح صعوبة هذا الاختبار الجديد من حيث مستوى الصعوبة، من السؤال عن اسم عاصمة المملكة المتحدة (لندن)، وحتى أهم الأحداث التي مرّت بها عبر التاريخ. وعمدت الحكومة إلى تحميل نسخة من الكتيّب على موقعها الإلكتروني تحت عنوان «اختبار الحياة في المملكة المتحدة» Life in the U.K test، كما يمكن لكل من يريد اكتساب حق المواطنة في المملكة المتحدة أن يستخدم تطبيقات الاختبار ذاته على الموقع الإلكتروني لصحيفة «الجارديان». وإذا نجح المترشح الجديد لنيل حق المواطنة البريطانية في تسجيل «العلامة الكاملة» للاختبار، فسوف يخبره النظام بأنه «أصبح مواطناً متفوّقاً». ويمكن تلخيص كل هذه السياسات المعمول بها في بريطانيا والمتعلقة بتحديد حقوق المواطنة والانتماء بعبارة واحدة: «ليس شرطاً أن تكون قد ولدت هنا حتى تصبح واحداً منا». ----------------- فرانسيس سيليرز محللة سياسية بريطانية ----------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»