يندهش قراء التاريخ الآن من حالة «الانغلاق الفكري» العميق لمجموعات ما يُسمى «بوكو حرام»، أو«داعش» أو غيرهما، بهذا الشكل الذي ينعكس على بياناتها وسلوكها، بينما تبدو أيضاً راغبة في التواصل بين تنظيماتها في آسيا وأفريقيا بما سماه البعض «عولمة بوكو حرام»! وهذا الأمر يرعب الشعوب في بلاد العراق والشام. في الوقت الذي يسعى فيه الرعب إلى أقصى الشرق، بل والغرب حتى عند من يرسلون الأوروبيين أنفسهم إلى ساحة «الجهاد»! هذا التناقض الواضح بين«الانغلاق الذهني»، و«الانفتاح» القتالي، هو ما يجعلنا نقارن بين ظروف «الحركة الجهادية» التي أبرزت المصلحين الدينيين والمجددين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وبين من يتشح بـ«الجهادية» الآن، في ظل هذا الانغلاق الفكري والتطرف في العنف بالصورة التعيسة التي نراها. وقد لفت نظري تشابه ظروف الصعود والهبوط في العالمين العربي والأفريقي لهذه الحركات «الجهادية» والمتطرفة وكيف انتشرت «الحركات المهدية» وما سمي بقادة الإصلاح الديني في أفريقيا، في أجواء مقاومة التسلل الأوروبي الاستعماري، ونهوض حركات تحرير، وتعبئة وطنية وإقليمية، وتشابه ذلك أو تأثره بالحركات المشابهة في الشرق العربي الإسلامي، وهنا يحضر إلى الذهن نماذج «الجهادية » في أنحاء غرب أفريقيا وشمال نيجيريا بقيادة «عثمان دان فوديو»، والأمين الكانمي في بلاد «بورنو» وحوض بحيرة تشاد شمال ومشارف نيجيريا، ونجاحهم في بث فكر توحيدي وسلمي لعشرات العقود.. إلخ. وأنا أراجع ما كتب عن نيجيريا، وجدت الكتاب الشهير لـ«شيخ عثمان بن فودي» الشهير أيضاً بـ«عثمان دان فوديو»: بعنوان «بيان وجوب الهجرة على العباد.. وبيان وجوب نصب الإمام، وإقامة الجهاد»، والذي كتبه عام 1806، ونشره محققاً مع دراسة شاملة لأفكاره وأعماله الأستاذ السوداني الفاضل «فتحي حسن المصري»، عن دار جامعة الخرطوم للنشر 1977. وكانت فرصة لمعرفة أحوال نيجيريا وتاريخها العتيد شمالاً وجنوباً، كما وجدتها فرصة حميمة للاقتراب ثانية من بعض تاريخ الفولانية مع الهوسا، بعد أن نشرت بعض مخطوطاتهم والتعريف بثقافة «الفولا» و«الهوسا» في الجزء الأول من كتابي عن «تراث اللغات الأفريقية بالحرف العربي – العجمي»، بل ويشمل الجزء الثاني (تحت الطبع حالياً)، تعريفاً بثقافة ومخطوطات لغة «الكانوري» أصحاب الشمال الشرقي لنيجيريا، وبلاد «كانم -بورنو» التي يتردد اسمها الآن كساحة مضطربة لشباب «بوكو حرام». لكن قيام سلطنة «سوكوتو» على يد «الشيخ عثمان دان فوديو» بين1804-1808 لم تكن انتصاراً فريداً للفولانية، بل إن تراث «الشيخ عثمان» التوحيدي والفكري جعل إلتحامهم مع قبائل الهوسا أكيداً، ليبقى شمال نيجيريا ووسط «بلاد السودان» أو معظم الصحراء الكبرى مملكة لثقافة سياسية وإدارية واحدة لفترة طويلة. قد يكون انشغال «الفولا» بالترحال والفروسية، غير انشغال «الهوسا» بالزراعة والاستقرار، وقد جعل ذلك استقرار هذه المنطقة الواسعة من أفريقيا ممكناً ومحتمل التصدي للتسلل الأوروبي، لولا سياسة التفرقة الغربية المعروفة، ولكن «الفولا» ظلوا أهل إدارة وتجارة، كما ظل «الهوسا» أهل استقرار وإمارة، كما يقول معظم الدارسين. لكن الباحث لابد أن ينتبه إلى أن شيوخ اليقظة الدينية في تلك الفترة، يختلفون بين فكر سلطة «فولانية» وراء «سوكوتو» بريادة- وليس مجرد قيادة- عثمان دان فوديو «وبين فكر توافقي» لشيخ كانم/ بورنو، وهو «الشيخ محمد الأمين الكانمي». ولولا عمق قراءة فكر الشيخ «عثمان دان فوديو» في 88 عملاً مما استعرضه «د. فتحي حسن المصري» في مطلع الكتاب الشهير باسم «البيان» لما توقعنا الآن بالتحليل إلا أن «بوكو حرام» مجرد ناتج فكر «جهادي» تكفيري موروث عن«الفودوية»، وأن تحركهم في «مايدوجري» والشمال الغربي لنيجيريا، ليس إلا استعداداً لغزو «سوكوتو» في الشمال الغربي، أو هو استعادة لتنافس واحتراب «الفولانية» السابق مع «الكانوري» وتصادم تاريخي بين«بن فوديو» و«الشيخ الكانمي»، الذي انتقد كثيراً أفكار «الفودوية» قبل أن يتصالحا. لكن «عولمة بوكو حرام» تجعلنا نأخذ بعداً آخر في الدراسة، وخاصة لمن نوصي بتعمقهم في هذا المجال من الفكر «الجهادي» الآن وإمكان كشف تناقضه مع فكر إسلامي، نضالي، وإصلاحي، لم يمض عليه أكثر من قرنين بدلاً من السعي وراء روايات سلفية تغيب عنهم أبعادها الثقافية والزمنية على نحو ما يفاجئنا به «خلفاء» حركة «الثورة المهدوية» الحديثة المثيرة للشكوك من حولها، بسبب «العولمة التقنية العالية» المصاحبة لفقر فكري محلي ضارب! «والشيخ عثمان دان فوديو» أمير الجهاديين السابق (1754-1817) لم تغب عن جملته الفكرية أحياناً أفكار التكفير والهجرة، ومحاربة أهل البدع، أو عزلة «أهل السنة والجماعة»، وإعلانه الجهاد على السلطنات والمجتمعات «الكافرة»!، مما يبدو في عنوان كتابه «بيان وجوب الهجرة على العباد.. ونصب «الإمام، وإقامة الجهاد»، وهنا نكتشف تسارع الجماعات الجهادية في أخذ هذه القشور والانطلاق منها إلى الانغلاق على نفسها، وإعلان الحرب على كل الآخرين، بدعوى إقامة حاكمية الله، والشريعة «ولتسارع نخبة منهم إلى فرض فكر السيطرة قبل الإصلاح المجتمعي، وقبل الاتساق مع ظروف المجتمع وتطوره، لأنه من الثابت أن «الشيخ عثمان» كان يختار أحكامه من بين العشرات الموروثة من تاريخ الحكم والشريعة. كانت قراءة فكر «عثمان دان فوديو» فضلاً عن تاريخه السياسي الاجتماعي كما عرضه فتحي حسن المصري، وبعض الكتاب المجتهدين في الفكر الجهادي الأفريقي أحمد الكانمي وجبرين.. إلخ، كفيلة بأن تصل إلى منتج فكري وسياسي جديد ومختلف. وليتابع المقاتلون من الغلاة الآن، في «بوكو حرام» أو «داعش» أو غيرهم، فكر رجل في ظروف «الشيخ عثمان دان فوديو»، أو«الشيخ أمين الكانمي»، ويقارنوه بحال قادتهم ليعرفوا كم يبتعدون عن الجهاديين أو الإصلاحيين الحقيقيين، ولنكثف في الفقرات القليلة الباقية هنا تعريفاً محدوداً بشيخ الجهاديين«بن فودي»: وأترك المقارنة لمن يرغب في تعميق التأمل بين الحالين ليضيف مسؤولية لا تغتفر على قوى «الإسلام السياسي»، التي لم تكلف نفسها عناء تحديث «أيديولوجيا الجهاد»، وهم يستفيدون فقط من تكنولوجيا تحديث الاحتراب. ها هو «عثمان دان فوديو» يحمل مكتبته الكبيرة على عشرات الإبل في ترحاله بين الممالك، وينظم تعليم النساء أثناء دروسه بجانب الرجال، بل وينظم لهن «دروس ما بعد صلاة العصر» هم وأطفال جماعته. ها هو «بن فودي» المالكي مذهباً، والمحترم للمذاهب الأربعة، وهو الأشعري عقيدةً والصوفي التزاماً بالقادرية، يجند الشباب في مراتب بين«العلماء» و«الطلاب للعلم»، ويصحب منهم ألفاً كتابعين ضمن المهاجرين معه، مما يرتعش له السلطان المعارض في «جوبر» إحدى سلطنات الجوار، ويطلب المهادنة معه. ذكرني ذلك بانغلاق شباب «بوكو حرام» القادمين من الجامعات والكليات العسكرية! ثم يتناولون بهذا الشكل المؤسف أنماط الدعوة والقتال. وقد قرأت نصوصاً في كتب الشيخ أقرب لما يردده أفضل المحدثين حول منع «الختان» وإباحة الموسيقى والطبول والتزين بالذهب، لذلك لانستبعد أحاديث أتباعه لفترة عن «المجدد» و«المهدي» و«الامام». لكن هذا البطل الإقليمي لم يفكر أن يتولى السلطة بعد إعلانه خلافة «سوكوتو» وكأمير للمؤمنين عام 1808 ليبقى لحوالي عشرة أعوام معتزلاً في قريته يقرأ ويكتب. هذا «الجهادى المتطرف» أحياناً في القول بالتكفير والجهاد لحشد أمة الإسلام في منطقة شاسعة من غرب أفريقيا، يؤلف في «الفرق بين أصول الدين، وبين علم الكلام»، حين شاع بين«الطلاب» من أنصاره القراءة عن المعتزلة وعلوم الكلام، وجدله، وهو يفرق بنفسه بين المقلد والمجتهد، ويجتهد في التفرقة بين التشابه في المواقف، وبين التناظر لتيسير «منهج القياس». هذا الفقيه، بقدر ما كان مجتهداً ومهدياً، راح ييسر مصادر الفتوى للمسلمين بإقراره مبدأ المراوحة بين مصادر الفتوى، يقرأ الشافعي وهو مالكي، ويلتزم بالغزالي والجيلاني، ويرجح المصلحة على التمسك بالفتوى المذهبية. وهذا الرجل أُعتبر شيخ المجتهدين، وإمام المجددين في فترة اشتهرت بالمهدية والإصلاح الديني، والجهاد الذي تطور ليناطح القوى الاستعمارية الغازية، ولذلك انتبه «الشيخ» أو «شيهو»، كما يعرف في المنطقة إلى جدل الشيخ «الكانمي» معه ومع أتباعه حول تحريم مقاتلة المسلمين«أو فرض الضرائب عليهم باعتبارهم كفاراً».. وأدرك مع «الكانمي» أن تهمة الكفر مفتعلة لاستباحة الأَسر والرق والغزو، وهو ما اجتهد «بن فودي» فيه مرة بالتراضي وأخرى بالتشدد. لكن مؤرخيه يقسمون حياته «الجهادية» بين ثلاث مراحل تنتقل في الدراسة بين التسامح ثم التكفير ثم العودة للتسامح مع إقامة سلطنة «سوكوتو». وهنا أدركت أن جماعة «بوكو حرام» لا يظهرون أي قدر من الجدل الفكري أو الجدل مع إصلاح الدولة بقدر ما ينحدرون إلى مجرد الاقتتال الذي يقوده مشبوهون، وليس الجهادية التي قادها «عثمان دان فوديو».