لعل الملا مصطفى البارزاني، الملقب بصقر جبال زاغروس، يبتسم الآن بعد أن تمت الاستجابة أخيراً لنداءاته ودعواته إلى الولايات المتحدة من أجل توفير السلاح لمقاتليه الأكراد مباشرة بغية طرد «الغزاة العرب». صحيح أن شحنات الأسلحة متأخرة بعض الشيء –فقد دعا البارزاني إلى ذلك أول مرة في صحيفة «واشنطن بوست» قبل أربعة عقود- وجاءت بكميات محدودة مقارنة مع احتياجات الأكراد؛ لكنها تمثل تحولاً مهماً بالنسبة للشرق الأوسط ربما لم تدرك مغزاه حتى إدارة أوباما وحلفاؤها الأوروبيون. ففي عام 1972، تنبأ البارزاني، الذي كان زعيماً قبلياً قوياً وخشناً، على غرار الشخصيات التي تصوِّرها أفلام هوليود، بهجمات الإبادة التي شنتها قوات صدام حسين لاحقاً على معقل الأكراد الجبلي في شمال العراق؛ لكن واشنطن لم تستجب لطلباته ومناشداته من أجل الحصول على شحنات أسلحة مباشرة. وفي عام 1975، قامت قوات صدام بتحطيم دفاعات الأكراد، ففر البارزاني إلى المنفى حيث عاش في منزل آمن يعاني من الوحدة تحت مراقبة وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إيه» في شمال فرجينيا (حيث توفي عام 1979) ليبدأ ليل العراق الطويل تحت حكم صدّام حسين. ومما لا شك فيه أن الكثير تغير منذ ذلك الوقت؛ فالأكراد الذين تقووا واستفادوا بشكل غير مباشر من التدخلين العسكريين الأميركيين لعامي 1991 و2003، تمكنوا من استرجاع السيطرة على موطنهم؛ ومسعود، ابن البارزاني، قاد كردستان إلى عهد من الرخاء والاستقرار النسبيين عبر انتهاج التعاون الاقتصادي مع تركيا (إلى الغرب) والتعاطي بحذق مع إيران (إلى الشرق). لكن الذي لم يتغير هو التالي: فالأكراد ما زالوا أقلية غير عربية ترفض تذويبها ثقافياً وسياسياً في مجتمع ذي أغلبية عربية. إنهم مسلمون سنة متسامحون نسبياً، يتحدثون لغة تنتمي إلى اللغات الهندوأوروبية، ويتمسكون بتراثهم بفخر واعتزاز شديدين. غير أن مقاومتهم للتذويب ولحكم بغداد ساهم في إطلاق عمليات التطهير العرقي ونقل أعداد كبيرة من السكان العرب إلى المناطق الكردية التي قام بها صدام. واليوم، يساهم توق الأكراد المستمر إلى تقرير المصير في تحريك مشاعر الكراهية لهم من قبل متطرفي تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) الذين بسطوا سيطرتهم على مدينة الموصل والمناطق المحيطة بها. غير أن تقدم تنظيم «داعش» المتوحش أضعف، بالمقابل، مبدأ قوياً، لكنه غير معلن، للسياسة الغربية في الشرق الأوسط. فحتى الآن، كانت الولايات المتحدة وأوروبا مترددتين للغاية –حتى لا نقول خائفتين- في أن يُنظر إليهما على أنهما تدعمان أقليات عرقية ودينية في أي دولة عربية، لأن ذلك يمكن أن يثير حفيظة كل الدول العربية تقريباً. ومثل هذا التواضع لعب دوراً خلال السنوات الخمسين الماضية في خنق أو خلع أعداد من سكان الأقليات الدينية والعرقية التي كانت تجعل من الشرق الأوسط في الماضي فسيفساء مذهلة من اليونانيين في مصر، والأرمن في لبنان، والشركس في الأردن، وآخرين كثر. بيد أن الأكثر أهمية من الضغوطات المجتمعية التي ضيقت وخنقت حريات وفضاء الأقليات في الحياة الوطنية عبر المنطقة هو الحرب الأهلية بين السنة والشيعة التي استعرت واتخذت أشكالا متنوعة داخل الإسلام، منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979. فاليوم، تخوض «داعش» ومجموعات مسلحة أخرى حرباً لإقامة خلافة توحيدية. ولاشك أن تخيير زعيم «داعش»، أبو بكر البغدادي، أبناء الطائفة الإيزيدية ومسيحيي الموصل، بين اعتناق نسخته من الإسلام أو الموت، يجسد مثالا وحشياً للإكراه والتشدد؛ لكنه لا يختلف سوى من حيث الدرجة، وليس من حيث النوع، عن تشدد وعدم تسامح السلفيين حيال أديان وثقافات أخرى. غير أنه من خلال تعهده بحماية الطائفة الإيزيدية من «الإبادة الجماعية»، ومد الأكراد بالأسلحة والذخيرة (التي كانت ممنوعة عليهم من قبل بغداد)، يمكن القول إن الرئيس الأميركي قطع –عن قصد أو غير قصد– مع الحذر الأميركي التقليدي بخصوص الانحياز صراحة لمثل هذه الأقليات غير العربية. فالنجاحات الأخيرة التي حققها الأكراد مرحب بها، لكنها تمثل آثاراً جانبية غير مقصودة للأعمال الأميركية في العراق. إن أوباما على صواب في القيام بهذا الأمر، وعليه الاستمرار فيه؛ غير أنه على صناع السياسات الأميركيين أيضاً تقييم الجذور الحضارية العميقة للنزاعات في العراق وأماكن أخرى؛ ذلك أن المجتمعات المحافظة التي يهيمن فيها الذكور في المنطقة تشعر بالتعرض لهجوم قاتل جراء تدخل العالم الخارجي، وخاصة الآراء الخارجية بشأن المساواة بين الجنسين وطبيعة دينهم؛ لذا قد يكون رد فعلها على ذلك قوياً. إن الرهان لا يتعلق بما إن كان نوري المالكي أو حيدر العبادي هو الذي ينبغي أن يكون رئيساً للوزراء؛ بل إنه أكبر حتى من آمال الحرية التي تسكن أصدقائي الأكراد. إنه كفاح من أجل تكييف العالم الحديث مع المجتمع العربي، والعكس صحيح. والأكيد أن النجاح في هذا الأمر سيمثل أفضل حماية يمكن أن تحصل عليها الأقليات هناك، ومعلماً تذكارياً يليق بالزعيم القبلي الذي أتذكره بكثير من الإعجاب باعتباره صقر كردستان، وليس طائراً محبوساً في قفص، مثلما حوَّلته واشنطن. --------------- جيم هوجلاند صحفي أميركي ---------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»