لا تعني الأصالة العودة إلى القديم واجترار الماضي، والفخر بالآثار، والاعتزاز بها، وكأن الماضي يحتوي على قيمة في ذاته، وكأن العودة إليه تكون غاية في ذاتها وليس وسيلة لتعميق الجذور، واكتشاف معوقات الحاضر أو الدوافع على تقدمه. وكثيراً ما يعبر هذا الموقف عن قصور في فهم الحاضر، وانعزال عنه كلية، وتعويض عن ذلك بجعل الماضي بديلاً عنه، فيتم الغرق فيه إلى الأذقان. كما يكشف عن إسقاط تام للمستقبل، ولا يشير إلى أي رؤية له تجعل الحاضر إحدى مراحله. والأصالة قد تكون في الطبيعة وفي الوجدان وفي العمق التاريخي وفي الأمثال العامية وفي الثقافة الشعبية وفي الشخصية القومية. ولا تعني الأصالة الحرص على التمايز والخصوصية بأي ثمن وعلى أي نحو وبأي شكل حتى لو كان عن طريق الإعلان التجاري عن النفس، والتمايز المصطنع عن الغير في الأشكال والرسوم وفي المظاهر الخارجية. فالأصالة بهذا المعنى قد يصبح فيها نوع من إيثار الانعزال على المشاركة، والانفصال بدلاً من الاتصال. ولا تعني الأصالة أيضاً التقوقع على الذات، ورفض الغير، والنفور من الغريب باعتباره مزيفاً وارداً دخيلاً تفقد الذات هويتها فيه، فالأصالة بهذا المعنى عزلة وفراغ وتجمد وتقلص ثم ضمور واضمحلال وفناء. فالذات لا تقوى إلا بالغير، في صراعها معه أو تمثلها له. الذات قدرة على الخصوبة والنماء، وطاقة على الحركة والحياة، تضمر باختفاء التنوع، وتموت بانتهاء الباعث، وتذبل إذا ما غاب التحدي. إنما تعني الأصالة البحث عن الجذور، والتأسيس في الأعماق، وقد كان البحث عن الأصل والجذور والأساس أحد مطالب الحكماء، قدماء ومحدثين، سواء في تراثنا القديم عند علماء الأصول، أصول الفقه أم أصول الدين، وفي كتب «تأسيس النظر» (الدبوسي) أو في التراث الغربي في حركات العودة إلى الأصول، والرجوع إلى الأرحام، والبحث عن الأساس (روسو، هوسرل، هيدجر). فكل تغيير بلا أساس يكون حدثاً أهوج في التاريخ، لا يبقى ولا يستمر، قشرة خارجية سرعان ما تتكسر إذا ما تحركت الأعماق ونبتت الجذور. الأصالة بهذا المعنى شرط المعاصرة، وسبب استمرارها والمحافظ عليها، والضامن لها. تعني الأصالة أيضاً التجانس في الزمان والتواصل في حياة الشعوب، وأن يكون حاضرها استمراراً لماضيها، ومستقبلها استمراراً لحاضرها، فلا يقع الانفصام في شخصيتها ولا تحدث الازدواجية في ثقافتها بين أنصار الأصالة وأنصار المعاصرة، بين دعاة القديم ودعاة الجديد، بين التعليم الديني والتعليم العلماني، فيحدث تعارض مصطنع بين الأصالة والمعاصرة، وكثيراً ما يتحول إلى تيارين متصارعين على مستوى الممارسة والسلوك. وينتهي الأمر إلى ضياع الوحدة الوطنية ممثلة أولاً في وحدة الثقافة، ووحدة الرؤية، ووحدة المنهج، ووحدة الهدف والغاية. فإذا ما انتصرت المعاصرة فإنها لا تبقى إلا لمدة محدودة سرعان ما تنحسر. وحينئذ تظهر الأصالة في صورة محافظة تقليدية تاريخية بعد أن تم كبتها وإيقاف مسارها أثناء وجود المعاصرة فوقها كغطاء ضاغط عليها كما حدث في تركيا وبولندا. كما تعني الأصالة القضاء على معوقات التقدم في الحاضر، والقضاء عليها من الأساس، وذلك باستئصال الجذور التاريخية للتخلف المتراكمة من الماضي في وجدان الشعوب حتى يمكن أن تتحقق المعاصرة بسهولة ويسر في زمن أقل وبرسوخ أكثر، وبرؤية تاريخية واعية، وبتدبير وتدبر بعيداً عن التخبط والعشوائية، ومن دون وقوع في مناهج المحاولة والخطأ، وتحويل الشعوب إلى حقل تجارب مستمرة وإلى ما لا نهاية. كما تعني أيضاً دفع مسار التقدم، وذلك باكتشاف دوافعه المتراكمة من الماضي في وجدان الشعوب حتى تتحرك الجماهير دون ما حاجة إلى دعاية سياسية أو توجيهات حزبية أو منظمات شبابية أو أجهزة إعلامية. إذ تكون حركة الجماهير حينئذ حركة تلقائية تساهم في التقدم، ولا تعتبره غريباً عليها، ولا تعتبر نفسها مقحمة فيه. وعلى الجانب الآخر لا تعني المعاصرة العيش على مستوى العصر سواء في الفكر أو في أسلوب الحياة. فلا تعني نقل أحدث الأفكار، والحديث عن آخر النظريات، ولي اللسان بأعقد المصطلحات. فالنظريات نفسها لا تنشأ في فراغ بل هي ردود أفعال على نظريات سابقة، وهذه بدورها ردود أفعال أخرى على نظريات أسبق، وهكذا. فالنظريات لها جذورها التاريخية، وبيئاتها الطبيعية. والمعاصرة بهذا المعنى تقتلع الجذور، وتسقط البيئة من الحساب، وتجعل النظريات تنشأ في فراغ، وتنقلها في فراغ، فتصبح هامشية، طائرة في الهواء، تذروها الرياح. ولا تعني المعاصرة فقط نقل أحدث وسائل العلم والتكنولوجيا إلى المجتمعات، فالعلم ليس هو نتيجة العلم أو تطبيقات العلم بل هو التصور العلمي للعالم، والرؤية العلمية للواقع، والموقف العلمي من الحياة، والمنهج العلمي في حل المشكلات. فلا يمكن أن ينقل نتاج العلم والتكنولوجيا في مجتمعات تحركها الخرافة، ولا تأخذ بالأسباب، ولا تربط بين العلل والمعلولات. صحيح أن التكنولوجيا تحضر قيمها معها، ولكنها في الغالب لا تكون قيم العلم والسيطرة على قوانين الطبيعة والتنبؤ بمسارها بل قيم الاستهلاك. ولا تعني المعاصرة أيضاً نقل آخر صيحات العصر في أساليب الحياة، في الفن والعمارة والزينة والعطور، في الغذاء والكساء، والتنقل والمعلومات، والتمتع بما يقدمه العصر من وسائل رفاهية العيش. المعاصرة بهذا المعنى لباس لقشرة الحضارة، ونقل لأسلوب حياة مجتمع الوفرة والرفاهية إلى مجتمع الندرة وشظف العيش وهي مجتمعات النهضة والتنمية، بل وإغفال حتى لما تعتز به من تراث حضاري. ولا تعني المعاصرة أيضاً قطع الصلة بالماضي، واقتلاع الجذور، واعتبار الماضي أحد المعوقات عن المعاصرة. وهنا تتحول المعاصرة وكأنها نوع من احتقار الذات، والوقوع الكلي في التغريب. فتتقلص الحضارات والثقافات المحلية للشعوب، وتنزوي إلى متاحف التاريخ، وتصبح الثقافة «الغربية» وهي النموذج الأكثر انتشاراً، ثقافة عامة وشاملة لكل الشعوب يقلدها الناس، وتقتفي أثرها كل الحضارات. فتظهر حضارات ممسوخة، لا هي استطاعت اقتلاع جذورها، ولا تمثل ثقافة الغير. وهنا تبدو ظواهر «التفرنج». وتتكون طبقة اجتماعية أو تصبح مجتمعات بأكملها لا مكان لها ولا زمان تلفظها المجتمعات المحلية ولا تقبلها المجتمعات العصرية، تفقد مكانها في التاريخ، كما تفقد أهليتها في ممارسة أي دور في التقدم والنهضة. إنما تعني المعاصرة مجابهة مشكلات الواقع، والدخول فيها، ومواجهتها مواجهة مباشرة، فالمعاصرة تعني هنا رؤية الواقع والإحساس به، والنظر إلى ما تحت الأقدام. وتعني أن يعيش الإنسان أحداث الزمن، وأن يعرف روح العصر، وأن يرفض جميع أشكال الزيف لتغليف الوعي القومي وتعميته ودفعه نحو الغربة والاغتراب. كما تعني المعاصرة كذلك عدم إغفال شيء من مكونات الواقع أو ابتسار جزء منه، بل قبول مكوناته. فالتراث مثلاً جزء من الواقع، يفعل فيه، ويؤثر عليه من خلال سلوك الناس ورؤية الجماهير له. والضنك والبؤس والفقر والجوع والحرمان واقع اجتماعي عريض للأغلبية الصامتة في بعض مجتمعاتنا. كما أن التسيب والخلل والفوضى وغياب العلاقات الواضحة بين الأفراد جانب أيضاً في واقعنا الاجتماعي. وضياع الولاء، وانحسار القضية، واختفاء الصالح العام كل ذلك أيضاً أحد مكونات مشاعر بعض الجيل وإحساسات العصر. وتعني المعاصرة أيضاً البحث عن الواقع في أساسه وليس في فروعه، والبحث عن الحلول الجذرية لقضاياه الأساسية وليس عن الحلول المؤقتة التي سرعان ما تتبدد وتبقى القضايا معلقة ودائمة بعد أن ينقضي أثر الحل الوقتي. وبهذا المعنى لا تكون المعاصرة استسلاماً للأمر الواقع بل هي بحث في جذوره التاريخية وأبنيته الحاضرة ومتغيراته المستقبلية. وبهذا المعنى أيضاً لا تعني السير وفقاً لمنطق الأحداث الواقعة تمشياً مع التيار السائد. فالعصري بهذا المعنى اشتراكي مع الاشتراكيين، ورأسمالي مع الرأسماليين. بل تعني المعاصرة أخذ موقف واضح ودائم من الواقع. وتعني إيثار الصالح العام على الصالح الخاص.