في المفاضلة بين الحُب و«تِمّنْ» العنبر، الأفضلية لـ«تِمّن» العنبر. و«التِمّنْ» هو الأرز باللهجة العراقية، و«تِمّنْ العنبر» هو الأرز العراقي الزكي الرائحة كعطر العنبر؛ موطنه الأصلي جنوب العراق في منطقة الأهوار، والديوانية، والنجف، والمشخاب. «ولا يكتمل الأكل العراقي من دون التِمّنْ الذي يؤكل مع كل أنواع المرق، حتى اليَخْني، الذي لا مثيل له، يقول عنه البغداديون: يَخْني دوّخني جاء بالتِمّنْ صالَحْني». «وعندما يقترب موعد الغذاء يضوع الحي كله بنكهة بخار قدور التِمّنْ، وليس عبثاً أن يُسمى العنبر». تذكر ذلك الباحثة والكاتبة المختصة بالطعام نوال نصر الله في كتابها «الطبخ العراقي»، وفيه 27 وصفة لطبخ الأرز، بينها «التِمّنْ الأحمر» الذي يستنشق العراقيون رائحته قبل أن يفتحوا باب البيت، وإذا كان «التِمّنْ الأحمر» مطبوخاً بالحُمُّص والزنود فلا خروج من البيت حتى إشعار آخر. و«التِمّنْ» ألوان، يؤكل بالعين قبل الفم، ومنه «الأخضر بالباقلاء»، و«الأصفر بالجزر»، و«الذهبي» بالزعفران (أو الكركم)، و«البُني بالشعرية والرشته» و«الكاكي بالماش» و«الأسمر» بالفطِر (أو الكمأة)، و«المُرقط باللوبياء الحمراء». وتتنافس الأسماء والبلدان على «الرُز بالعدس» الذي يسمونه «الكُشَري» في بلدان شرق المتوسط العربية، و«المجَدِّرة» في العراق. والمنافسة الإقليمية بحجم «القوزي» الذي يتكون من خروف بكامله محشو بالرز، والبصل، والخضراوات، والكشمش واللوز، ونومي البصرة، وحبّات الهيل والقرنفل، ويستلقي فوق تل من الرز. ويكشف كتاب الباحثة العراقية، الذي فاز بجوائز عالمية عدة، أسرار طبخ التِمّن المُحمّص في قعر القِدر، ويسميه البغداديون «حِكّاكه» لأنه يُستخرج بحّك طبقة رز «جيولوجية» تتقّصفُ وتتحطم بالأسنان، وتتقرمشُ داخل الفم كالزلزال. وطريق التاريخ والجغرافيا مزروعة بالتِمّنْ من العراق حتى الصين، التي جاء منها اسم التِمّن حسب العالم الموسوعي البيروني. وأقدمُ شهادة صينية عن التِمّنْ وردت على لسان سجين صيني في الكوفة، قبيل بناء بغداد عام 762، قال إن «العراق محور الكون، وتِمّنْ العراقيين أبيض كتِمّنْ الصين، ونساء ورجال العراق طوال القامة ووسيمين، يرتدون أحزمة فضية، وحبّة العنب عندهم في حجم البيضة». وتقول الباحثة العراقية التي لمْ يُترجم كتابها بعد للعربية إن طبخة «البردة بلاو» الكردية تعود إلى عصر بابل، ويعني اسمها الكردي طبخة «الرز المُغطى» بعباءة رقيقة من العجين تحتضن أحشاءها اللحمية الناعمة. و«المقلوبة بالباذنجان» منافستها العربية والتي ما إن تُقلبُ على ظهرها حتى تتفتح حشاياها الذهبية الضوّاعة. وبسبب الحجاب كان يُطلقُ عليها في العصر العباسي اسم «المغمومة»، لكن ابن المهدي، أمير الطعام وشقيق هارون الرشيد يُسّميها «فرحانة»، ويقول عنها في ختام قصيدة طويلة: «فهذه عندكم مغمومة حَزَنتْ، لكنها ما رأت يوماً من الحَزَنِ. فرحانة تفرح الجوعان إن بدَرَتْ، في صحفة كمِثال البدر في الدَجَنِ». ويعارض الشاعرُ «الحافظُ» ابنَ المهدي بقصيدة يختلط فيها الطبيخ بالطباخ: «كحُسن البدر وسط سماءِ. أنقى من الثلج المضاعف نسجه، من صبغة الأهواء والأنداءِ. فكأنها في صفحة مقدودة، بيضاء مثل الدّرة البيضاءِ». وتنتهي القصيدة ولا ندري من المقصود؛ طباخة الرز أم رُزها. والعراقيون العباسيون كانوا يكتبون الشعر ويأكلونه. في قصيدة «مفاخرة الرز والحَبْ رمان» يذكرُ الرز أنه «عمارة البلدان وقوة الأبدان» ويُعدّد طبخاته: الشُّربةِ، والفولية، والفقاعي، والمأمونية. وتنبري له حبّات الرمان: «اسكُتْ يا مُبهرَج، يا مُدوّر يا مُدَحرَج. أنت للبطون نافخ وعَلى القلوب راسخ». وتنتهي المفاخرة بسعي الأطعمة للصلح بينها، حيث «أقبلت الملوخية بجمعها، والفولُ، والشوّي الذي قال: أنا أمشي بينكما عُريان، وأتحلق بينكما بالزعفران. وقالت البامية: أنا أفديكما بالدُّر المصون واللؤلؤ المكنون»! ومن يفدي «يوم البذور العالمي» الرز العنبر، المهدد بالانقراض! وزير الزراعة العراقي «عزالدين دولة» استبعد ذلك، لكنه اعترف بتراجع إنتاجه بسبب قلة المياه، وإقبال المزارعين على زرع رز الياسمين «الذي يتميز بسرعة إنتاجه وكثرة كمياته». سكان المناطق المشهورة بزراعة العنبر حمّلوا الوزارة المسؤولية. المزارع رياض الكريطي من الديوانية قال لصحيفة «المستشار» إن «مشكلة المياه يمكن التغلب عليها حالياً، حيث يتوفر بمستويات متفاوتة، لكن ارتفاع تكاليف الإنتاج وضعف الخدمات الزراعية إضافة إلى أن انخفاض الأسعار يعيق الإنتاج». وفي مقابلة في «يوتيوب» كرّر المرشح لمنصب محافظ الديوانية عبارة «جيبو العنبر للديوانية» وانضمّ إليه المذيع يهزُجُ «جيبو العنبر للديوانية»! و«العنبر» إلى الأبد في عُهدة نساء العراق، من بغداد، وحتى بروكسيل، وإلى مساشوستس. الخبازة «أم جاسب» تخبز على قارعة الطريق خبز الرز لعمال «المساطر» في «مدينة الصدر». يسمونه «السيّاح» ويأكلونه ساخناً مع القشدة «القيمر»، أو السمك. وفي حديثها لمراسل صحيفة «حزب الدعوة» تبُث «أم جاسب» حزنها للتوقف عن استخدام «العنبر» غير المتوفر حالياً، والذي تستخدم بدله أنواع الرز المستورد. والباحثة العراقية الأميركية وفاء النظيمة، مثل تِمّنْ العنبر، عصيّة على الاندثار. أسّست عام 1994 «معهد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» في مساتشوستس بالولايات المتحدة، ولم تتوقف عشرين عاماً عن إعداد الأبحاث، وإنتاج الأفلام، وشنّ الحملات دفاعاً عن العراق والعرب، وتحتفل كل عام بيوم البذور العالمي. احتفالية هذا العام، كانت السبت الماضي في «كنيسة أبرشية روزلينديل»، جمعت الهنود الحمر وخبراء ومزارعي البذور العضوية وشركات الأعمال الصغيرة في الزراعة الخضراء، والنشطاء ضد قرصنة البذور، وضد احتكارات صناعة البذور الجينية. ولابدّ أنّ آلهة اليُمن والسعادة الهندية «شيفا» جعلت أكاديميين من الهند التي تُعتبر إمبراطورية رز «البسمتي» يدعمون حملة «النظيمة» لإنقاذ منافسه رز العنبر العراقي. و«في يوم البذور العالمي، أوقفوا اغتصاب الإرث الحضاري لبلاد ما بين النهرين»، عنوان بحث سعاد ناجي العزاوي، أستاذة هندسة البيئة، ونائبة رئيس جامعة بغداد للشؤون الهندسية سابقاً، وعضو هيئة أمناء منظمة محكمة العدل الدولية «بروسيل». مؤتمر المنظمة الذي عُقد في بروكسيل منتصف الشهر الماضي بالتعاون مع «اتحاد الحقوقيين الدولي» ناقش الخطوات العملية لمقاضاة الزعماء الغربيين المسؤولين عن حرب العراق، وبينهم بول بريمر، حاكم الاحتلال الأميركي المسؤول عن انتهاك القوانين الدولية بالقرار رقم 81 الذي فرض على المزارعين العراقيين استخدام «البذور المسجلة» التي تنتجها الشركات الاحتكارية وتحظر استخدام البذور المحلية، ما يعني السيطرة المطلقة على الزراعة في العراق، وإبادة أقدم البذور في التاريخ التي أنبتت حضارة بلاد ما بين النهرين، ومجموع الحضارة العالمية. وعندما ندخل موقع «الحركة العالمية لحرية البذور» على الإنترنت، نقرأ في صدر الصفحة شعر جلال الدين الرومي: «في هذه الأرض، في هذه الأرض، في هذه الأرض العذراء الحبلى، لن نزرع شيئاً سوى الحنان، لن نزرع شيئاً سوى الحب». *مستشار في العلوم والتكنولوجيا