لقد سبق لي أن تلقيتُ استقبالات عديدة لا تنسى في مطارات عبر العالم؛ ولكن لا شيء منها كان يمكن أن يُعدّني لما رأيته حين وصولي الأسبوع الماضي إلى بانجي، عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى، ذلك أن أكثر من 70 ألف شخص يعيشون متكدسين في ظروف مزرية على أرضية المطار؛ أكثرهم حظاً يعيشون تحت ما يشبه خياماً مصنوعة من الأقمشة المهترئة بفعل المناخ على بعد أمتار قليلة من المدرج. هذا في حين ينام آخرون في العراء. ولئن كانوا يتوفرون على حماية القوات الدولية، فإنهم معرضون للأمراض وسوء التغذية وفظاعات كثيرة خارج بوابات المطار، كما أن الطعام قليل، والملاريا متفشية، وموسم الأمطار لن يزيد الطين إلا بلة، ولن يعمل إلا على مفاقمة المشاكل. كان الرجال والنساء يتقاسمون روايات فظيعة عن الاغتصاب الجماعي، والابتزاز، والأعمال الوحشية. وفي هذا السياق، حكت لي إحدى الأمهات كيف أن الأطفال الصغار بدؤوا فجأة يقلدون الكبار بالأسلحة وتساءلت: "ما الذي سيحدث لأطفالنا إذا كانوا لا يعرفون اللعب؟". وعلى غرار لاجئيه العالقين في المطار، تُعتبر البلاد في حاجة ماسة للخروج من بؤسها. فالعام الماضي شهد إسقاطاً عنيفاً للحكومة، وانهياراً تاماً لمؤسسات الدولة، وانزلاقاً إلى الفوضى وانعدام القانون وأعمال العنف الطائفية. وقد خلق انهيار الدولة مجموعةً من التحديات التي تُضعف الأمن والاستقرار عبر منطقة هشة أصلاً؛ حيث فر معظم الأقلية المسلمة في البلاد؛ وأخذ هذا التطهير العرقي- الديني يغيِّر المشهد في جمهورية أفريقيا الوسطى. في بعض المواقع المتناثرة، تجمعت مجموعات ضعيفة في مخيمات ومناطق محمية، ولكنها تواجه خطر التعرض لهجمات ويحدوها هدف واحد يطغى على ما سواه: الفرار. لقد التقيتُ بمئات الأشخاص خارج المسجد المركزي في حي "بي كي 5" المدمر في بانجي. "إننا نريد التقسيم"، تقول إحدى اللافتات. وقال لي أحد الشبان مفسرا: "إننا نريد أن نعيش هنا، ولكننا لن نبقى هنا فقط لكي نموت". والحال أن الناس ينبغي ألا يضطروا لتوسل التقسيم حتى يشعروا بالأمان. في بلد تعادل مساحته ولاية تكساس الأميركية، يسهر قرابة 8 آلاف من جنود الاتحاد الأفريقي والجنود الفرنسيين على توفير الأمن، وهم كل ما يقف بين حالتي النظام والفوضى. ولكنهم في حاجة للمساعدة. وقد وافق مجلس الأمن الدولي مؤخراً على مقترحي القاضي بنشر 10 آلاف جندي وقرابة ألفين من أفراد الشرطة من أجل بعثة جديدة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة في جمهورية أفريقيا الوسطى. وهي خطوة مرحب بها – ويتوق إليها كل من التقيتهم في البلاد – ولكن البعثة لن تنتشر بشكل كامل حتى سبتمبر المقبل، والحال أن الوقت ليس إلى جانب الضعفاء. وإلى ذلك الحين، يُعتبر توفير الدعم لقوات الاتحاد الأفريقي والجنود الفرنسيين أمراً مهماً للغاية. ولذلك، فإنني دعوتُ الاتحاد الأوروبي إلى توفير تعزيزات – وأنا مسرور لأن الجنود بدؤوا يصلون - غير أن ثمة حاجة إلى مزيد من المساعدة الأمنية خلال هذه الفترة الفاصلة الحاسمة قبل أن تصبح بعثة حفظ السلام جاهزة للعمل بشكل كامل. وهنا لا بد من أن يكون ثمة تحرك على جبهتين أخريين أيضاً. فالحكومة الانتقالية في حاجة إلى مساعدة فورية على صعيد الحكامة، ويشمل ذلك الدعم لإعادة الشرطة والقضاة وحراس السجن إلى العمل. وبالتوازي مع ذلك، تحتاج البلاد إلى عملية سياسية تشمل وتستوعب الجميع من أجل شق الطريق نحو السلام. ولكن المحاسبة بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة أساسية أيضاً. وفي هذا السياق، أرسلت الأمم المتحدة لجنة تحقيق للمساعدة على الدفع بالعملية إلى الأمام. كما يعتبر الزعماء الدينيون أساسيين للدفع بالحوار وضمان عودة الأشخاص الذين تم إجلاؤهم إلى منازلهم. ومع مساعدة المجتمع الدولي، يستطيع شعب جمهورية أفريقيا الوسطى بناء مستقبل من المصالحة والسلام. لقد سافرتُ عبر البلاد حين كنت في طريقي إلى رواندا من أجل المشاركة في الذكرى العشرين للإبادة الجماعية التي عرفها هذا البلد عام 1994. وقبل أن أغادره، قلتُ لزعماء جمهورية أفريقيا الوسطى إنه يتعين عليهم الاتعاظ والاستفادة من دروس تلك المأساة الملحمية وعدم تكرار أخطائها. أحد الزعماء الدينيين الذين التقيتهم تحدث عن الصعوبات الكثيرة التي تواجه البلاد وقال لي: "لقد بتنا نخاف من الغد". ومثلما رأيتُ في رواندا، فإن المجموعات التي تعيش صدمات وطنية كبيرة يمكنها أن تتعلم العيش معا من جديد في انسجام نسبي. وهذه هي الروح التي يجب على زعماء جمهورية أفريقيا الوسطى وشعبها إحياؤها. والأكيد أن المجتمع الدولي لديه فرصة للمساعدة – وواجب للتحرك. ولكن ليس غدا – وإنما اليوم! ----- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"