بعد نصف قرن من عمله كعضو في البرلمان البريطاني، تقاعد «توني بَينْ» عام 2001. آنذاك قالت زوجته: «الآن يمكنك التفرغ للسياسة». مُزحة، لكنها جدية، فالسياسة التي مارسها منذ خروجه عن النظام السياسي، وحتى وفاته الأسبوع الماضي (عن عمر 88 عاماً) كانت أكثر سياسية منذ انتخابه لأول مرة عضواً في البرلمان، وهو في الخامسة والعشرين. وفي مناصبه الوزارية كانت أحد أكثر ملامح عمله كآبة «هو الذهاب إلى البرلمان كل أسبوع للدفاع عن عجز الجهاز الإداري الضخم للبلاد، وإخفاقاته». ذكر ذلك في مذكراته «خارج المتاهة» التي صدرت عام 1987. وبعد اعتزاله السلطة توالت مذكراته في الصدور بمعدل كتاب كل عام، وخرج بالسياسة من تحت قُبة البرلمان وأروقة الأحزاب إلى الميادين العامة، وأسس حركة «لا حرب على العراق» التي نظمت أكبر تظاهرة في تاريخ بريطانيا تجاوز عدد المشاركين فيها المليونين. وتثير الحبور محاضرات «بَينْ» العامة، وحواراته التلفزيونية، كالمقابلة التي اتّهم فيها «بي بي سي» بمحاباة إسرائيل، وانتقد مقاطعتها حملة التبرعات لـ«صندوق إغاثة أطفال غزة»، وذكر رقم حساب الحملة، وعندما اعتذرت المذيعة بأن ذلك موقف «بي بي سي» الرسمي من حملات جمع التبرعات عموماً، قال: «أنتم حتى لا تذكرون رقم حساب الحملة»، وأعاد ذكره بالكامل، قالت المذيعة «ها أنت ذكرته مرتين»! قال: «بينما أنتم لم تذكروا حتى مرة واحدة الرقم»، وأعاده ثالثة! هذا الأرمل المرح كَرّس كتابه الأخير «لهب أشعة شمس الخريف» لزوجته كارولاين التي توفيت بالسرطان، وقال عنها أجمل ما يقوله زوج عن زوجته: «في حياتها علّمتني كيف أعيش، وبوفاتها علّمتني كيف أموت». وإن لم يوفق «بَينْ» في وقف الحرب ضد العراق، وتحرير بريطانيا من الرأسمالية، فقد «حقق مهمة لا تقل صعوبة، وهي تحرير نفسه»، حسب الكاتب البريطاني «غريك براون». وفعل «بَينْ» ما لم يجرؤ على فعله أيّ زعيم عالمي، بما في ذلك «بابا روما»، الذي تراجع قبيل الغزو عن عزمه الذهاب إلى مكان مولد إبراهيم الخليل في العراق. «بَينْ» فعل ذلك، وحمل إلى صدام حسين السؤال الذي كان العالم كله ينتظر جوابه: هل يملك العراق فعلا أسلحة الدمار الشامل؟ المقابلة المتلفزة مع صدّام اخترقت الستار الحديدي الإعلامي المفروض على العراق، ونقلت للعالم مباشرة التساؤل الساخر للرئيس العراقي: «هذه الأسلحة ليست أقراص يمكن إخفاؤها في الجيب. هذه أسلحة دمار شامل، ويمكن بسهولة معرفة ما إذا كان العراق يملكها أم لا». حدث ذلك قبل يوم من تلويح وزير الخارجية الأميركي كولن باول في «مجلس الأمن» بقارورة صغيرة، ادّعى أن ما يعادلها من سلاح جرثومي يملكه العراق يمكن أن يدّمر العالم. «رجل التاريخ»، و«المُدافعُ الذي لا يكلُّ عن الاشتراكية»، و«أخطر رجل في بريطانيا»، و«الفخر الوطني لبريطانيا»، و«آخر عمالقة السياسيين الراديكاليين».. هذه بعض عبارات نعي «توني بَينْ»، وبعضها قاله زعماء محافظون، كعمدة لندن جونسن الذي وصفه بـ«الديمقراطي العظيم». وانفرد «بَينْ» بين زعماء السياسة بما يقول عنه كريغ: «كان يسمح لنفسه بأن يبدو كبشر ملؤه الضعف والقلق، تُوازنُ ذلك قدرة يُحسدُ عليها في الحب والبهجة». وكان حبه للعراقيين موازنته القلقة في مواجهة الآلة الرهيبة للإعلام الغربي المُجيَّشة ضد العراق، والتي استهدفته شخصياً. ذكر ذلك مرات عدة في كتابه «مفكرة بَينْ 2001-2007»، وقال مازحاً: «من حسن الحظ أن التلفزيون لم يصور المشاعر الحميمة التي أبداها صدام حسين، وتمنياته الحارة بأن أكرر سفري إلى بغداد»! لقد «أصبح العالم أصغر منذ توفي بَينْ». هكذا نعاه المؤرخ البريطاني هينيسي. وأصغر الجميع خصومه السياسيين، الذين يعتبرونه مسؤولًا عن إخفاقات «حزب العمال»، واليسار البريطاني، وبينهم زعماء حزبه العمالي؛ نيل كينوك، ودينيس هيلي، وروي هاترسلي، وشيرلي وليامز. جميعهم يحملون لقب «لورد»، أو «بارونه»، و«بَينْ» بدأ حياته السياسية بمعركة قضائية استغرقت أربع سنين للتخلص من لقب لورد الذي ورثه عن أبيه وحرمه من عضوية البرلمان. وتكلل فوزه في المعركة ضد القضاء البريطاني بحدث تاريخي؛ تعديل الدستور. وشكوى زعماء حزب العمال من «بَينْ» قديمة منذ قال عنه رئيس الوزراء هارولد ولسن عند توليه وزارة البريد، وهو في الـ38، «بَينْ يقلُّ نضجه مع العمر». وهذا صحيح بالمقياس التقليدي، الذي لا ينطبق على سياسي بدأ حياته بالمقلوب، من مجلس اللوردات حيث يختتم السياسيون حياتهم بالعواء الهادئ، مثل «كلاب البودل» حسب اللورد لويد جورج. لقد اكتشف «بَينْ» في وقت مبكر العمر الضائع في الحكم حين قضى ثلاث سنوات مشغولا بقضية واحدة، وهي تحسين تصميم الطوابع البريدية. كانت مشكلة مصممي الطوابع هي صورة رأس الملكة التي ينبغي أن تُزيّن كل طابع، وانخرط «بَينْ» في معركة طويلة مع مسؤولي هيئة البريد، وموظفي القصر الملكي، وأثار الموضوع حتى مع الملكة نفسها، مزعجاً إياها بسيل من التصاميم المقترحة للطوابع. ولم يتراجع عن موقفه، إلا بعد أن أقنعه رئيس الوزراء بأن «الملكة امرأة لطيفة»! هل كانت المعركة «الدونكيشوتية» لتغيير تصميم الطوابع تعبيراً لا واعياً عن تفادي «بَينْ» حرب فيتنام آنذاك، والتي أيّدت فيها حكومته التدخل الأميركي، وتجاهله نذر الانكماش الاقتصادي في بريطانيا، والتواطؤات مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا، والأزمة السياسية والروحية لحزب العمال؟ كان ذلك محور تفكيري عندما حاورتُه عام 1988 في منزله في «نتنغ هيل غيت» بلندن، ونشرت مقاطع من الحوار مجلة «الثقافة العالمية» الصادرة عن «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» في الكويت، وكنتُ آنذاك مراسلها في لندن. وفي الحوار مع «بَينْ» أدهشني أن إيمانه بالاشتراكية لا يعود إلى ماركس، بل إلى الفطرة الدينية. و«الإيمان شيء مستعد لتموت من أجله، والعقيدة شيء مستعد لتَقتُلَ من أجلها». وقال لي: «المجتمع الغربي يقوم على أساس أن الحياة غابة يسود فيها القوي على الضعيف. وإذا عدنا إلى تعاليم مختلف الأديان، فسنجدها تقوم في الجوهر على فكرة الاعتماد المتبادل بين البشر والواجب الأخلاقي لكل منهم تجاه الآخر. كل الأديان تتحدث عن الخيار بين طريق الله وطريق الطمع، أو بين طريق الله وطريق المال. ونحن في مجتمع تُقام فيه كل يوم صلوات عبادة المال». واختُتِم الحوار المنشور بقول الشاعر الإنجليزي هولدرين: «يا أصدقائي لقد جئنا متأخرين جداً، فماذا يفعل الشعراء في زمن المحنة». وتساءلتُ: «هل جاء توني بَينْ متأخراً جداً أم متقدماً جداً؟». ولم أعثر طوال ربع قرن على الجواب، الذي رحل مع «بَينْ» خارج متاهتنا الكونية. *مستشار في العلوم والتكنولوجيا