مَن يقرأ تاريخ الحرب العالمية الأولى ويتأمل أسباب اندلاعها، يشعر بالقلق من أن يتورط التاريخ في إعادة نفسه، فقد بدأت روسيا الحرب الأولى في بداية القرن العشرين، ويخشى العالم أن تبدأها في هذا القرن عبر موقفها الراهن في أوكرانيا، حيث يبدو الرئيس بوتين باحثاً بإرادة وتصميم عن استعادة دور قيادي لروسيا في العالم، وقد شجعه على ذلك ما بدا من ضعف وتردد في المواقف الأميركية والأوروبية في القضية السورية. وإذا كانت البشرية قد عانت من كوارث الحرب الأولى قبل مئة عام بسبب التقدم العلمي الذي جعل البشر يواجهون لأول مرة في التاريخ قصفاً يأتي من السماء، وأسلحة كيميائية تستخدم لأول مرة، ثم يواجهون في الحرب الثانية موتاً جماعياً بسبب التقدم العلمي الذي وصل إلى اختراع القنبلة الذرية، فإن هذا التقدم اليوم وصل إلى حد إمكانية تدمير الكرة الأرضية في حروب تعبر القارات، ولن يقلل من عدد الضحايا درع صاروخي، ولا توازن رعب. ولئن تمكن عقلاء القادة في العالم من نزع فتيل الحرب فإنهم لن يتمكنوا من إيقاف العودة إلى أجواء الحرب الباردة. وتبدو القضية السورية مفتاحاً وامتحاناً لرؤية المستقبل، وقد صارت توأم قضية أوكرانيا، فبوتين وهو أهم شخصية محورية في هذه التراجيديا الدولية، تمكن من إفشال مؤتمر جنيف كي يربح موقعاً على ضفاف المتوسط، ولم يخطر له أنه قد يخسر شبه جزيرة القرم، وقد خسر فعلياً على رغم الحشود العسكرية، فالشعب الروسي ذاته لن يسمح لبوتين بأن يجره إلى دمار اقتصادي وسياسي لمجرد مقاومة حق الشعب الأوكراني في اختيار مستقبله، وانتخابات مايو القادمة ستكشف حقيقة الموقف الشعبي رغم وجود جذور ثقافية روسية عند جزء كبير من السكان الشرقيين، لكن الشعب الأوكراني يختزن في ذاكرته تاريخاً طويلاً عانى فيه من طمس هويته وإقصاء لغته وضمه قسراً إلى الحظيرة الروسية على مدى قرون. ومع مطلع القرن العشرين ذاق هذا الشعب مرارة المجاعة والهجرات الجماعية وبقيت تطلعاته إلى التخلص من الاستبداد الروسي كامنة على رغم حصوله على الاستقلال مطلع التسعينيات. ولكن روسيا ترى جذورها في كييف وتخشى انفلات الغرب الأوكراني من قبضتها. واليوم يعيش الأوكرانيون هاجس التقسيم، فقد يكون حلاً لا مفر من القبول به لتفادي وقوع الحرب، وقد حدث سابقاً أن انفصل الغرب الأوكراني عام 1920 وظهرت دويلات أوكرانية منها جمهورية غرب أوكرانيا الشعبية وجمهورية هوتسول وظهرت حركة فوضوية تدعى الجيش الأسود في جنوب أوكرانيا، وهذا يذكر السوريين بظهور دول سورية في فترة الانتداب الفرنسي. وبعض المحللين يبحثون عن المتشابهات والمتناقضات بين القضيتين السورية والأوكرانية، ويتهكم بعض السوريين بمرارة على الضجيج المدوي استنكاراً لمقتل مئة من المواطنين الأوكران برصاص القناصة الذين احتلوا أسطح المباني وأطلقوا النار عشوائياً على المتظاهرين، بينما لم يشهد العالم دوياً مماثلاً إلا بعد سقوط مئة ألف مقتول في سوريا، مع تقديرنا لخطر مقتل إنسان واحد. كما يتهكم بعض السوريين على التباين بين موقف الجيشين، والبرلمانين، وعلى الاستجابة الأميركية والأوروبية للتحدي الروسي. ويرى كثير من السوريين أن تورط بوتين في عداء واضح للغرب قد يصرفه عن الاهتمام بسوريا، على رغم تصريحات الروس المتشددين بأن روسيا متمسكة بسوريا بذات الأهمية التي تراها لأوكرانيا، فحضورها في المتوسط الذي صار معسكراً للغرب، وعلى مقربة من تركيا التي تحتضن رادارات «الناتو» مهم كأهمية جزيرة القرم التي تعتبر خطاً أحمر بالنسبة لروسيا، وهم بذلك يردون على احتمال حدوث مقايضة بين القضيتين، وهذا احتمال ضعيف لأن الروس والأميركان وخلفهم أوروبا لم يختلفوا بجدية حول الموقف من سوريا. ولم تظهر الولايات المتحدة مواقف جادة فقد اكتفت بالتصريحات، وهذا لا يعني رغبتنا في التدخل العسكري الذي نرفضه، ولكن كان بوسع الولايات المتحدة أن تحد من تكرار تمثيليات «الفيتو» الروسي في مجلس الأمن. ولم يكن دعم أصدقاء سوريا يكافئ موقف روسيا وإيران على الضفة الثانية. وما يزال هذا التباين في الموقفين قائماً، فالروس يدعمون حلاً سياسياً هدفه إجبار المعارضة السورية على الخضوع المطلق للنظام، والاكتفاء بمقعد وزاري أو بحضور تمثيلي هش مقابل دماء ما يقارب مليون شخص من الضحايا الذين لا يوجد إحصاء دقيق لعددهم لأن الجثث تعفنت تحت الأنقاض أو حشرت في مقابر جماعية مجهولة، فضلاً عن تشرد شعب في أكبر هجرة ونزوح شهدهما العالم وقد اقترب العدد من عشرة ملايين شخص فقدوا منازلهم، وفوق هذا مئات الآلاف من المعتقلين والملاحقين وأغلبهم ممن عبروا عن رفضهم للعنف في مواجهة المظاهرات في وسائل التواصل الإلكتروني. ولم يبد النظام أية بادرة تشير إلى رغبته في إيجاد حل قابل للتحقق، مثل إطلاق سراح المعتقلين وإصدار عفو عام عن الملاحقين. وليس سراً أن روسيا تتحمل مسؤولية هذا الفشل الذريع لمؤتمر جنيف وهي راعية له، ولم يعترض أحد من قادة الغرب على موقفها الذي تصاعد في التعنت، واكتفى مجلس الأمن بتحويل القضية السورية الدموية إلى قضية مساعدات إنسانية، ولا ننسى أن بان كي مون دعا للتحضير لجولة ثالثة من المفاوضات، وبراميل الموت الجماعي تواصل تصعيد حرب الإبادة العشوائية. ولئن كان بعض المحللين يرون أفقاً لربط القضية السورية بالقضية الأوكرانية، فإنني أخشى أن تجيء حلول ضد مصلحة الشعب السوري، مثل التقسيم في القضيتين، أو المراضاة في المتوسط مقابل دخول أوكرانيا الاتحاد الأوروبي. فالروس والأميركان يتفقون على أهمية سوريا ضمن نظرية الأمن الإسرائيلي، وهما يتفقان كذلك على خطر تنامي الإرهاب في سوريا، وخطر انقلاب السحر على الساحر مستقبلاً، وهذا ما بدأ يحدث في الشمال السوري حيث مكن النظام حركات التطرف لإيقاع الثورة السورية في تهمة الإرهاب، وتم تسليم مدينة الرقة بطريقة تمثيلية باهتة التقطت فيها صور تذكارية بين محافظ المدينة وأمين فرع الحزب فيها مع الثوار الذين استولوا على الرقة دون أية مقاومة، وسرعان ما أطلقوا اللحى وأعلنوا دولة الشام والعراق «داعش»، وتكرر الأمر ذاته في محافظة الحسكة حين أتاح النظام لبعض الأكراد أن يقيموا كياناً مستقلاً، وصرفت الأنظار الدولية عن الثورة وعن مطالب الشعب بالحرية والكرامة إلى متابعة حروب صغيرة بين الجيش الحر وبين فصائل متطرفة تبحث عن خلافة إسلامية أو عن انفصال إثني. وتعلق النظام ببند مكافحة الإرهاب بدعم روسي، متجاهلاً مآسي الشعب المشرد الذي تفاءل ببارقة أمل تنهي عذاباته فازدادت فجائعه، وسيكون أكثر فجائعية للعالم كله أن يتعرض لخطر الانجرار إلى حرب كبرى من أجل أن يبقى لروسيا نفوذ في أوكرانيا، أو على شواطئ المتوسط.