جوانب من الأزمة الأوكرانية
وراء الأحداث الدامية في أوكرانيا تختفي الكثير من القضايا ذات الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للأطراف الدولية المتنازعة هناك، فأوكرانيا تاريخياً هي توأم روسيا منذ عهد القيصرية ودولة «كيفسكيا روس» في العصور الوسطى، والتي ضمت الدولتين معاً، كما أنهما شكلتا أهم أسس الاتحاد السوفييتي وتمركزت في أوكرانيا صناعات مهمة، كصناعة الطائرات.
ورغم توافر العديد من الثروات الطبيعية والزراعية، تكمن أهم مشاكل أوكرانيا في فقرها بمصادر الطاقة والتي تعتمد فيها بدرجة كبيرة على جارتها روسيا، سواء في العهد السوفييتي أو في الوقت الحاضر، مما أوجد صعوبة في محاولات الغرب ممثلًا في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في فصل «التوأم» خلال العشرين عاماً الماضية، إلا أن مستجدات عديدة حدثت في تكنولوجيا الطاقة اتاحت امكانية استغناء أوكرانيا عن امدادات الطاقة الروسية، أي انتاج النفط والغاز الصخريين، حيث تشير التقديرات الأولية إلى توافرهما بصورة كبيرة في الأراضي الأوكرانية.
وينوي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة استثمار مليارات الدولارات لتطوير مكامن النفط والغاز في أوكرانيا، والتي قد تصبح دولة مصدرة إلى جانب اكتفائها الذاتي، إلا أن ذلك قد يؤثر على إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا والتي تمر في الوقت الحاضر عبر الأراضي الأوكرانية وتمد أوروبا بـ 30 في المئة تقريباً من احتياجاتها من الغاز.
إلى جانب هذه القضايا الاقتصادية، فإن هناك من دون شك جوانب استراتيجية وأمنية وسياسية تتمثل في وجود الأسطول الروسي في منطقة القرم ذات الحكم الذاتي، والتي قد تنفصل عن أوكرانيا في حالة استمرار الصراع، علماً بأن الغرب يحاول الحد من التأثير الروسي على الجمهوريات السوفييتية السابقة، والتي ترتبط بعلاقات قوية مع روسيا بحكم ترابط مصالحها الاقتصادية، حدث ذلك مع جورجيا قبل خمس سنوات تقريباً ويحدث حالياً مع أوكرانيا.
إشكالية الاتحاد الأوروبي أنه يريد تخفيض اعتماده على إمدادات الطاقة الروسية وفي الوقت نفسه لا يرغب في انتاج النفط والغاز الصخريين في أراضيه بسبب الأضرار البيئية التي تنجم عن عمليات الانتاج هذه، خصوصاً أن منظمات حماية البيئة تقاوم بصورة مستمرة سعي بعض بلدان الاتحاد للمباشرة في انتاج النفط الصخري إلى درجة استدعت الرئيس الفرنسي أولاند للتصريح بأن هذا النوع من الانتاج لن يحدث في فرنسا ما دام هو رئيساً لهذا البلد.
إذن البديل الممكن هو تطوير انتاج النفط والغاز الصخريين في بلدان أوروبا الشرقية، وبالأخص أوكرانيا والسعي الى ضمها إلى الاتحاد الأوروبي، علماً بأن هذه البلدان بحاجة لمصادر الطاقة، إضافة إلى احتياجاتها لعوائد إضافية لتمويل مشاريعها التنموية والتي تعتمد فيه حالياً على الخارج، حيث بلغت الديون الخارجية لأوكرانيا وحدها 140 مليار دولار.
بذلك يستطيع الاتحاد الأوروبي وبدعم من الولايات المتحدة اصطياد عدة عصافير بضربة واحدة تتمثل في تلبية جزء من احتياجاته من الطاقة من مصادر غير روسية، وبالتالي التقليل من ضغوط موسكو عليه، وثانياً إبعاد أوكرانيا عن روسيا وتقريبها من الاتحاد الأوروبي وضمها إليه لاحقاً وثالثاً تفادي الأعضاء الغربيون في الاتحاد الأضرار البيئية التي ستنجم في حالة اضطرارهم الى انتاج النفط والغاز الصخريين في أراضيهم.
في المقابل تسعى روسيا إلى حماية الوضع القائم حالياً، فأوكرانيا تمثل عمقاً استراتيجياً وأمنياً لها، كما أن استمرار الغرب في الاعتماد على امدادات الغاز الروسية يشكل عامل ضغط كبيراً ويحقق لموسكو مكاسب، أذ أننا نرى في الوقت الذي تركز واشنطن انتقاداتها لروسيا في العديد من القضايا الدولية، فإن الاتحاد الأوروبي عادة ما يلعب دور التهدئة ليتجنب غضب القيصر الروسي.
الأزمة الحالية لا تتعلق بالشعارات المعلنة، حيث تمت في أوكرانيا انتخابات شفافة شارك الاتحاد الأوروبي في الإشراف عليها، وانما نحن أمام صراع مصالح اقتصادية ومحاولة للتحكم في مصادر طاقة موعودة سيترتب على عملية استخراجها عواقب استراتيجية وأمنية عديدة.
د.محمد العسومي