«نحن نتوجه مرة أخرى إلى روسيا بنداء لإخراج القوات وتطبيق الاتفاقيات الثنائية.. ندعو إلى حل أزمة التواجد الروسي على أراضي الجمهورية ذات الحكم الذاتي بشكل سلمي وسياسي». كان ذلك أول تصريح رسمي لرئيس الحكومة الأوكرانية الجديد، ارسيني ياتسينيوك، حول الأزمة المندلعة بين كييف وموسكو عقب دخول قوات روسية، الجمعة الماضي، إلى جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي في أوكرانيا. وقد قال ياتسينيوك لدى افتتاح مجلس الوزراء: «إن وجود العسكريين الروس غير المناسب في القرم يشكل استفزازاً.. لكن المحاولات لدفع أوكرانيا على الرد بالقوة فشلت». بيد أن أوكرانيا التي لم تكد تخرج من أزمتها السياسية المتواصلة منذ عدة أشهر، ليست لديها الجاهزية لمواجهة روسيا، الجارة القوية التي اعتبرت الأحداث الأوكرانية الأخيرة مؤامرة ضدها، أفضت إلى إطاحة بفيكتور يانوكوفيتش من سدة الحكم وتنصيب رئيس البرلمان كرئيس انتقالي مؤقت، واختيار وزير الخارجية السابق ارسيني ياتسينيوك رئيساً للحكومة. وقد تم تعيين ياتسينيوك الخميس الماضي، رئيساً للحكومة الانتقالية، بأغلبية 371 صوتاً داخل البرلمان، وذلك بعد يوم واحد على إعلان «مجلس الميدان» في أوكرانيا، والذي يجمع قادة المعارضة وجمعيات المجتمع المدني، خلال تجمع في كييف، اختياره لذلك المنصب، ومن ثم طرح اسمه لمصادقة البرلمان عليه. وجرى الإعلان بحضور عشرات آلاف الأشخاص في ميدان الاستقلال الذي أصبح رمزاً لحركة الاحتجاج على نظام حكم يانوكوفيتش. ويعتبر ياتسينيوك مصلحاً تكنوقراطياً يحظى بدعم الولايات المتحدة، لكنه يواجه الآن مهمة ضخمة ومعقدة تتمثل في استعادة الاستقرار في البلاد التي عانت من انقسامات عميقة وتقف على حافة الانهيار المالي. ولد ارسيني ياتسينيوك عام 1974 في تشيرنيفتسي، عاصمة إقليم تشرنيفيست الواقع في غرب أوكرانيا. وهو اقتصادي ومحام وسياسي أوكراني، درس في الجامعة الوطنية في تشيرنيفتسي وتخرج من قسم القانون فيها، ليفتتح مكتباً للمحاماة، وفي الوقت ذاته كان يدرس في معهد كييف للتجارة والاقتصاد. كما عمل في قطاع البريد بين عامي 1998 و 2001، قبل أن يتحول إلى السياسة. وقد بدأ ياتسينيوك حياته السياسية عندما انتخب نائباً في البرلمان الأوكراني عام 2001، ثم أصبح وزيراً للاقتصاد في الحكومة المحلية لشبه جزيرة القرم في الفترة بين شهري سبتمبر ونوفمبر من العام ذاته. لكن في نوفمبر 2003، تم تعيينه نائب رئيس المصرف الوطني لأوكرانيا. وبعد الثورة البرتقالية التي أطاحت بالنظام الموالي لروسيا عام 2004، أصبح ياتسينيوك، في سبتمبر من العام التالي، وزيراً للشؤون الاقتصادية في حكومة لوريي يخانوروف تحت رئاسة فيكتور يوشينكو. ثم ما لبث الوزير الشاب الذي ظهر كمفاوض في المحادثات مع الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية، أن أصبح واحداً من ممثلي أوكرانيا على المسرح الدولي. لذلك وافق البرلمان الأوكراني، في مارس 2007، على تعيينه وزيراً للشؤون الخارجية، بناءً على اقتراح من الرئيس يوشينكو الذي يلزمه الدستور بنيل موافقة البرلمان فيما يتصل بتعيين وزيري الدفاع والخارجية. ثم بعد شهر على الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2007، وعقب مفاوضات مطولة بين الأحزاب الممثلة في البرلمان، جرى انتخاب ياتسينيوك رئيساً لـ«الرادا» (البرلمان الأوكراني)، وذلك لحصوله على 227 صوتاً من أصل 450. لكن فيما كانت أوكرانيا تشهد أزمة سياسية عميقة بسبب الخلافات داخل معسكر الثورة البرتقالية، أعلن ياتسينيوك نيته ترك رئاسة البرلمان في نهاية 2008. وبعد الموافقة على استقالته من منصبه كثاني شخصية في نظام الحكم، أعلن سعيه لإنشاء «قوة سياسية جديدة، قادرة على قيادة تغيير حقيقي في البلاد». وفي ديسمبر 2008، أعلن عن تأسيس حزبه الجديد، «الجبهة من أجل التغيير»، وهو تنظيم سياسي قريب من رئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو. لكن ياتسينيوك لم يكن يخفي نيته الترشح لانتخابات الرئاسة الأوكرانية المقررة في يناير 2010، حيث نفى رسمياً في إبريل 2009 تحالفه مع أي قوة سياسية أخرى، وأصر على خوض السباق نحو قصر «ماريينسكي» أياً تكن الظروف. وخلال حملته لانتخابات الرئاسة، وعد ياتسينيوك بحل البرلمان والدعوة لانتخابات محلية وتشريعية مبكرة، كما أعلن عزمه رفض أي صفقات في الشوط الثاني من الانتخابات، لكنه لم يصل لذلك الشوط، حيث حل في الترتيب الرابع بنسبة 6?96 في المئة، بعد المرشحين المؤهلين لخوض شوط الإعادة، وهما فيكتور يانوكوفيتش (35.32 في المئة) ويوليا تيموشينكو (25.05 في المئة)، وقد تلاهما شيري تيهبكو (مرشح «حزب العمل» والرئيس السابق للبنك الوطني). ومع ذلك فمرشح «الجبهة من أجل التغيير» حلّ متقدماً على الرئيس المنتهية ولايته يوشينكو الذي عاقبه الأوكرانيون فلم يحصل من أصواتهم سوى على نسبة 5.45 في المئة فقط. وعقب الانتخابات الرئاسية، قام الفائز بها، وهو فيكتور يانوكوفيتش، بتوجيه الدعوة إلى ياتسينيوك للانضمام إلى حكومته، لكنه رفض العرض مفضلا البقاء في المعارضة. وللمرة الثالثة، خاض ياتسينيوك الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2012 على رأس قائمة «الجبهة من أجل التغيير». وحينها طالب بإيجاد تحالف يضم جميع قوى المعارضة، بما فيها تيموشينكو المعتقلة منذ عام 2011. واستطاعت أحزاب المعارضة بالفعل، في أبريل 2012، توقيع ميثاق ائتلاف يسمى «الجبهة ذات وجود الجبهة ستبقى». وقد برز ياتسينيوك كواحد من الشخصيات الهامة داخل التحالف، وأظهرت مواقفه خلال الانتخابات وبعدها، تصميماً قوياً من جانب المعارضة على استرداد السلطة من «حزب الأقاليم» بزعامة يانوكوفيتش، كما أعطت صورة عن تصميم الطبقة السياسية وعزمها على مصارعة الفساد وتزوير الانتخابات. ولا شك أن تلك المواقف والمواقع، وآخرها تواجده لأسابيع بين المحتجين داخل ميدان الاستقلال، كانت السلم الذي أوصل ياتسينيوك أخيراً إلى رئاسة الحكومة، بعد خمسة أيام فقط على تعديل الدستور الأوكراني تعديلا يقلص من صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الوزراء. وها هو ياتسينيوك يقود حكومة الوحدة الوطنية التي دعيت لتولي قيادة البلاد قبل الانتخابات الرئاسية المبكرة في 25 مايو المقبل. وهو في موقعه الجديد يواجه مهمة ضخمة ومعقدة تتمثل في استعادة الاستقرار في البلاد التي عانت من انقسامات عميقة، إلى جانب النهوض بوضعها الاقتصادي الذي يقف على حافة الانهيار المالي. وذلك ما يدركه ياتسينيوك الذي لم يخف في خطاب ترشحه حجم المهمة التي تنتظره، حيث تحدث عن ضرورة تشكيل «حكومة انتحاريين» بسبب الإجراءات القاسية التي سيضطر لاتخاذها ولن تحظى بشعبية. كما أوضح للنواب أن «الخزينة العامة فارغة، كل شيء سرق. لا أعد بتحسن لا اليوم ولا غداً. هدفنا الرئيسي هو إعادة الاستقرار إلى الوضع. فالدين العام وصل 75 مليار دولار، والبطالة تسارعت كثيراً، وكذلك هجرة الاستثمارات. لا حل آخر لدينا إلا تقليص البرامج الاجتماعية والمساعدات والحد من نفقات الميزانية». فأي سياسي أوكراني في العقد الرابع من عمره (38 عاماً) يجرؤ على تحمل مهمة كهذه إلا إذا كان بالفعل رئيس «حكومة انتحارية» تحاول التصدي لروسيا البوتينية في القرم؟ محمد ولد المنى