هل ستكون مصر القادمة دولة ديمقراطية ونظاماً ليبرالياً بشكل كامل، أم ستتغلب على اقتصادها وسياساتها الاجتماعية، بعض أشكال هيمنة الدولة والمركزية والحلول الوسطية التوفيقية؟ ما الدروس التي تعلّمها المصريون من تجربتهم الخاطفة مع حكم «الإخوان»، وما الذي سيقوم بن الناخب المصري كي يضمن عدم عودة الإخوان و«الشموليين»، من شباك الانتخابات الديموقراطية الحرة القادمة، بعد أن تم إخراجهم من «باب 30 يونيو»؟ كنت مؤخراً في معرض الكتاب بالقاهرة وكانت لي لقاءات مع كتب «سور الأزبكية» القديمة وشبه القديمة. وكم سعدت عندما التقطت كراساً دسماً بعنوان «عن الديموقراطية الليبرالية: قضايا ومشاكل»، صادر عن دار الشروق قبل عشرين عاماً في 1993، والذي أثارني في الكتيب ليس التركيز والعرض الشيق والإحاطة شبه الكاملة بهذا الموضوع العريض فحسب، بل وكذلك لأن مؤلف البحث وكاتبه هو رئيس وزراء مصر الحالي في الحكومة المؤقتة، الدكتور «حازم الببلاوي»! في المكتبة العربية اليوم كم هائل من الكتب والمقالات حول الليبرالية ومدارس الديمقراطية ومشاكل تطبيق كل منهما في بلدان الغرب وآسيا كاليابان والهند. وفي الشارع العربي، وبين المثقفين العرب، انقسام ملحوظ حول جدوى الليبرالية، وقدرة الديمقراطية على حل مشاكل العرب، ومدى تآلف المبدأين مع ثوابتنا الكثيرة. وليس بمستغرب أن يبدأ اهتمام العالم العربي على نطاق واسع بالليبرالية بعد عام 1990 خاصة، وأن يكتب الببلاوي وآخرون الكتب والمقالات حولها. ففي عام 1989 و1990 بدأ تفكك الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، وفي العام ذاته اعتدى صدام حسين على الكويت، مشعلا أزمة عالمية وحرباً كبرى، وتجدد اهتمام الإعلام والمثقفين العرب خاصة بمبدئي الديمقراطية والليبرالية وما يتعلق بهما. يقول الببلاوي في مدخل بحثه: «لقد أصبحت الديمقراطية قضية الساعة في عدد كبير من الدول، ومع ذلك فلعله لا يوجد اصطلاح امتهن وتعددت استخداماته كما حدث لمفهوم الديمقراطية. فها هي الديمقراطيات الشعبية أو الجماهيرية التي قامت بزعم مجاوزة شكلية الديمقراطية الليبرالية ومن أجل تحقيق الديمقراطية الحقيقية، فإذا بها تكشف عن وجهها السافر، فلا هي ديمقراطية كما لم تكن شعبية أو جماهيرية. وفي الوقت الذي يزداد الانبهار بالديمقراطية والليبرالية في المجتمعات التي عاشت في ظل النظم الشمولية والقهر والاستبداد، فإننا نلمح بعض مظاهر الملل والقلق في الديمقراطيات الغربية العريقة نفسها. كذلك فقد وجدنا أن محاولات بعض تلك النظم الشمولية السابقة من أجل التحرر وإقامة الديمقراطية قد تمخضت عن حالات من الفوضى والعنصرية والبربرية التي تكاد تختلط بالقبلية القديمة». استغرقت أفكار الديمقراطية الليبرالية سنوات مديدة لتنضج في التجربة الأوروبية. وعندما قامت الثورة الفرنسية في عام 1789 بعد الثورة الأميركية عام 1776، كان الاعتقاد المنتشر أن الطريق أمام الديمقراطية قد فتح إلى غير عودة، وإذا بالقرن التاسع عشر يحفل بالدعوات الشمولية، ثم جاء القرن العشرون، فظهرت الفاشية والنازية وديكتاتورية ستالين. غير أن السذاجة الإنسانية بقيت مستمرة، حيث كتب «فوكوياما» مقاله الشهير عام 1989 عن (نهاية التاريخ والانتصار النهائي) لليبرالية بشقيها الاقتصادي والسياسي. وكثيراً ما تنصرف أذهاننا لدى التفكير في مجريات هذه المرحلة إلى مجريات الأحداث في أوروبا الشرقية خاصة بعد 1990، ولا نقف مطولا عند سقوط أنظمة «الاستبداد اليميني» في العقدين السابقين. ففي 1974 سقط نظام «شالازار» في البرتغال، وتبعه نظام فرانكو في إسبانيا عام 1975، كما عرف نفس المصير نظام العسكر في اليونان عام 1974. وعرفت أميركا الجنوبية أو اللاتينية، الشهيرة بانقلاباتها وديكتاتورياتها تساقطاً متتابعاً في الأرجنتين عام 1982 وأوروجواي عام 1983 والبرازيل 1984 وتشيلي 1990.. إلخ. وانتقلت الموجة إلى آسيا، فسقط نظام كوريا القوي في 1987، وسبقه نظام كمبوديا الغاشم. وسقط كذلك نظام جنوب أفريقيا العنصري عام 1990. وكان بين الساقطين نظم الحكم في إثيوبيا واليمن الجنوبي وغيرهما. وتعززت الظروف الدولية لصالح انتشار الديمقراطية الليبرالية بعد سقوط الأنظمة اليمينية والانقلابية بالانهيار الكبير في بلدان المعسكر الاشتراكي. والحقيقة أن الأفكار الشمولية والمناهج الاشتراكية كانت قد سادت طوال القرن العشرين تقريباً. وبلغ من هيمنة الأيديولوجيات على الواقع السياسي العالمي ما جعل بعض الكتاب، مثل «جان فرانسوا ريفل»، يقول في عام 1983، ناعياً الديمقراطية، بأنها «لا تعدو أن تكون صدفة تاريخية أو جملة اعتراضية في تاريخ البشرية لن تلبث أن تختفي». بينما رأينا «فوكوياما» يعلن على النقيض، وبالصوت العالي، «الانتصار النهائي لليبرالية». ثمة ارتباط شديد بين الليبرالية والديمقراطية، بل إن اسم الأولى مشتق من معنى الحرية، ومع ذلك فإن الليبرالية تستند إلى مفهوم خاص للحرية، اتضحت معالمه بوجه خاص ابتداءً من القرن السابع عشر. فـ«الفكر الليبرالي»، كما يوضح الببلاوي، «ليس فقط دعوة إلى الحرية، ولكنه بالدرجة الأولى دعوة إلى الفردية، واحترام مجال خاص يتمتع الفرد فيه باستقلاله وحريته دون تدخل أو إزعاج.. وهكذا نجد أن الفكر الليبرالي، وإن كان يستند إلى الديمقراطية، فإنه لا يرى فيها ضماناً كافياً، بل لابد أن يصاحب ذلك الاعتراف بحقوق الأفراد على نحو لا يجيز المساس بها، ومن هنا فإن الديمقراطية الوحيدة التي تتفق مع الفكر الليبرالي هي الديمقراطية الدستورية، أي التي تضع حدوداً لحماية الأفراد في أموالهم وحرياتهم». وإذا كانت الليبرالية تقدس الفردية إلى هذا الحد، فما موقفها من «أهداف المجتمع» أو «رسالته»؟ يقول الببلاوي: «الفكر الليبرالي يرفض الأفكار الموروثة والتي ترى أن للمجتمعات غايات محتومة، غيبية أو غير غيبية، وأن الفرد مُسخّر لتحقيق هذه الغايات. وعلى العكس فإن الفكر الليبرالي يرى أن الفرد هو اللبنة الأولى، وهو الأساس في المجتمعات، وأن هذا الفرد يسعى إلى تحقيق ذاته والسعي المستمر وراء غايات وأهداف خاصة متغيرة دوماً». وأساس هذا الموقف الليبرالي عند جون لوك، أن العقد الاجتماعي «ليس تنازلا من الأفراد عن السيادة للسلطان، بقدر ما هو اتفاق بين الجميع في إطار القانون الطبيعي. وهذه هي فكرة الديمقراطية الدستورية. وفي هذا يختلف موقف «لوك» من الديمقراطية عن «جان جاك روسو» مثلا، الذي طرح فكرة «الإرادة العامة» للشعوب، والتي باسمها تفرض كافة الأحكام والقوانين دون أي قيد أو رادع. لذلك «فلا محل لحقوق الأفراد عند روسو»، كما يبين الببلاوي. ويقع «هوبز» في منطقة وسطى بين لوك وروسو. لكن يظل «لوك» الممثل الحقيقي لليبرالية، حين يجمع بين الديمقراطية وحقوق الأفراد.