في إحدى مقالات الرأي التي كتبها صاحبها بحسن نية بصحيفة "واشنطن بوست" أطرى "جيمس ويلز" مؤسس الموسوعة الإلكترونية "ويكيبديا"، على مشروعه الجديد في مجال الهاتف الذي تعهد فيه بتخصيص ربع الأرباح للقضايا العامة التي يتم اختيارها من قبل مؤسسة خاصة، وبالطبع لا أحد يريد أن يشكك في أهداف "ويلز" ولا في ضرورة الانتصار للقضايا المجتمعية العادلة، لكني أجدني مضطراً للفت الانتباه إلى مسألة تبدو لي خاطئة ومجافية للصواب أشار إليها "ويلز" عند حديثه عن الالتزامات التي يتعين على الشركات الوفاء بها تجاه المجتمع والصالح العام. ففي نقاشه للطرق التي تلجأ إليها الشركات على نحو متكرر للدفاع عن نفسها وتبرئة ساحتها، كتب ويلز "إن الشركات تجادل عن حق بأن المتطلبات القانونية المفروضة على الشركات الربحية، والتي تجبرهم على مضاعفة الإيرادات بالنسبة لأصحاب الأسهم تحد من قدرتهم على الوفاء بالتزاماتهم المجتمعية". ومع أني لم أسعَ أبداً إلى تصويب هفوات مؤسس موسوعة "ويكيبديا"، إلا أنه لا يمكن تجاوز الحقائق والتغاضي عنها، فعندما تُعرض شركة ما للبيع يكون مديروها مطالبون ببذل قصارى جهدهم لرفع قيمتها، وفي جميع النصوص القانونية المنظمة لعمل الشركات يتم التركيز فقط على ضرورة أن يساهم المديرون في ازدهار الشركة، وألا يسعوا إلى الاستفادة الشخصية على حسابها، لكن لا وجود البتة لقانون يفرض على الشركات مضاعفة أرباح أصحاب الأسهم. وعلى سبيل المثال لو أن شركة قامت من أجل الازدهار والتوسع بتوظيف عمال أكثر مهارة، وإن كانوا أكثر كلفة، وإنشاء فروع جديدة، والإنفاق أكثر على التطوير والبحث العلمي، فإن ذلك سيكون جيداً، بل ضرورياً لبقاء الشركة من الناحية الاستراتيجية، حتى لو كان ذلك يعني عوائد أقل بالنسبة للمساهمين في الرأسمال، وإذا كان السيد "ويلز" لا يصدقني ما عليه سوى البحث عن كلمة "شركة" في موسوعته، أو أن يجري بحثاً عن "قانون الشركات في الولايات المتحدة"، حينها لن يجد قانوناً في الولايات الخمسين يتطرق إلى موضوع رفع العوائد بالنسبة للمساهمين، بل الأكثر من ذلك لم يجد "لين ستاوت" أستاذ القانون بجامعة كورنيل، فصلًا واحداً في قانون الشركات يلزمها بمضاعفة مداخيل أصحاب الأسهم. والحقيقة أن الفكرة القائلة بأن الشركات تنشأ لمكافأة أصحاب الأسهم وإجزال العطاء لهم لم تنبثق من القانون، بل من الاقتصاديين الذين تحركهم الأيديولوجيا، ففي عام 1970 كتب "ميلتون فريدمان" أن الهدف من الشركات هو مضاعفة الأرباح ما أمكن، وفي السنة نفسها جادل زميل "فريدمان" في جامعة شيكاغو الاقتصادي، يوجين فيما، بأن سعر أسهم شركة ما يكون دائماً تعبيراً عن قيمتها، وهي الفكرة التي تسربت إلى الشركات لتكرس فكرة أن الهدف الأسمى للمديرين هو تعزيز قيمة الأسهم، لا سيما بعدما أصبحت تلك القيمة مرتبطة على نحو متزايد برواتب وتعويضات المديرين العامين. لكن ما جرى على أرض الواقع أنه ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي، عندما أقدمت شركة جنرال إلكتريك على تسريح ربع موظفيها بهدف رفع قيمة أسهمها أكثر، كانت الشركات الأميركية بصدد التخلي عن نموذج حماية جميع المتدخلين- الذي سعت من خلاله إلى الموازنة بين مصالح العمال وأصحاب الأسهم والمجتمع عامة- لصالح نموذج تم فيه التضحية بالاستثمار في المشاريع الجديدة والاهتمام برواتب وامتيازات الموظفين لتعظيم الأرباح على المدى القريب، فكانت النتيجة أن ارتفعت أسعار أسهم الشركات بنحو 30 في المئة خلال السنة الماضية حسب تقديرات وكالة التصنيف المالي "ستاندر أند بورز"، فيما ظلت الاستثمارات والرواتب على حالها. وفي الوقت الذي كانت فيه قيمة الشركات السوقية ترتفع إلى مستويات قياسية، لم تتزحزح رواتب الأميركيين في 2013 بأكثر من 0.7 في المئة، وهي النسبة التي تشمل الدخل المتأتي من تلك الأسهم، ما يعني أن القليل فقط من الأميركيين يمتلك أسهماً في الشركات؛ لكن مع ذلك يصر المدافعون عن نسبة 1 في المئة الأكثر ثراء في أميركا بأن التفاوت الفاحش في الدخل ناتج عن العولمة والتغيرات التكنولوجية باعتبارها قوى خارقة لا تتحكم فيها الدول، أو الشعوب. وعادة ما تلوم تلك الفئة العمال الأميركيين لافتقادهم التدريب الضروري، إلا أنهم في المقابل يقفزون، عند تشخيصهم للوضع وتبريرهم للفوارق الكبيرة في الدخل، عن التحول الحقيقي الذي تشهده الشركات الأميركية بانتقالها من نموذج عموم المتدخلين إلى التركيز فقط على مصلحة أصحاب الأسهم. ولعل ما يدل على أن هذا النموذج من صنيعة المديرين التنفيذيين في "وول ستريت" والشركات أن الاقتصاد الألماني على سبيل المثال معرض هو أيضاً لقوى العولمة والمتغيرات التكنولوجية تماماً مثل اقتصادنا، لكن مع ذلك يظل التفاوت محدوداً هناك، فالعمال في ألمانيا يستفيدون من فرص أكبر لأن الرأسمالية الألمانية لم تتخل عن النموذج الموجه لخدمة جميع الأطراف?،? سواء كانوا أصحاب الأسهم، أو الموظفين، أو المجتمع عامة، لذا إذا كنا نعتقد بأن النموذج الأميركي الحالي ينص عليه القانون، كما ذهب إلى ذلك "ويلز"، فقد تم تضليلنا، ذلك أن رأسمالية أصحاب الأسهم لا سند لها في القانون، بل هي مدعومة فقط بمؤسسة الجشع، ولن يستفيد الشعب الأميركي من اقتصاده إلا بهدم هذه المؤسسة وتفكيكها. _ _ _ _ _ _ _ _ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"