تنعكس حالة الفتور الواضحة التي تغشى العلاقات الأميركية ــ الروسية خلال هذه الفترة على استطلاعات الرأي في البلدين، والتي تكشف بجلاء نوعاً من النفور وعدم الارتياح الذي يكنه كل طرف للآخر، وذلك في ظل تزايد أسباب الخلاف وتنامي التوتر بين الحكومتين. واللافت أن هذا التدهور جاء في أعقاب النوايا التي كان أوباما قد عبّر عنها مباشرة بعد دخوله البيت الأبيض، حيث أعرب عن رغبته في «إعادة ضبط» العلاقة مع روسيا وتحسينها، لكن ذلك لم يحدث على أرض الواقع، بل توسعت الهوة وتعمقت في كثير من الحالات، واليوم يجد البلدان نفسيهما على طرفي نقيض سواء تعلق الأمر بالحرب الدائرة في سوريا وسبل حلها، أو بما يجري في ليبيا. ولا ننسَ هنا أن الاعتقاد السائد في روسيا هو أنها خُدعت عندما وافقت على قرار أممي بحماية الشعب الليبي ليتحول في غفلة منها إلى إطاحة بنظام القذافي. ثم امتدت تلك الخلافات إلى أوكرانيا المنقسمة على نفسها بين الرئيس الذي تدعمه روسيا وبين المعارضة التي يساندها الغرب. هذه الاختلافات في الموافق والرؤى دفعت البعض إلى القول برجوع فترة الحرب الباردة والصراع القديم مع الاتحاد السوفييتي، لاسيما في ظل الرئيس بوتين بميوله القومية ورغبته الواضحة في إعادة فرض الهيمنة الروسية على البلدان التي كانت تدور في الفلك السوفييتي أو حتى تلك التي ربطتها به علاقات قديمة في الشرق الأوسط. ولعل ما يثير المخاوف أكثر لدى المراقبين الغربيين هو أن هذا النزوع نحو الهيمنة في مناطق روسيا القريبة والبعيدة يتزامن مع زيادة ملحوظة في النفقات العسكرية، وتنظيم مناورات عسكرية استفزازية في المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، بل المطالبة بالقطب الشمالي. لكن إذا كانت عقلية الحرب الباردة قد بدأت تخيم على ضفتي الأطلسي، فإن الأمر في جنوب وشرق آسيا يتخذ أبعاداً أخطر تذكرنا بالفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية وتلك التي تلتها. وفي هذا السياق يمكن تقسيم التطورات الأمنية والسياسية التي تهدد استقرار شرق آسيا إلى ثلاثة محاور أساسية، يتمثل الأول في العلاقات المتشنجة تاريخياً بين الصين والكوريتين وبلدان أخرى في جنوب شرق آسيا وبين اليابان التي احتلت تلك البلدان وأخضعت شعوبها لمعاملة قاسية لم تُنسَ بعد. فرغم إلحاح تلك البلدان على اليابان بالاعتذار لشعوب المنطقة بالنظر لتجاوزاتها الكثيرة إبان الحرب العالمية الثانية والفظائع التي ارتكبتها حينئذ، إلا أن طوكيو لم تفعل ذلك، ليتنامى الشعور بالمرارة والاستياء لدى شعوب المنطقة. بل زادت حدة التوتر بصعود رئيس الوزراء الياباني ذي الميول القومية، شينزو آبي، إلى السلطة وزيارته مؤخراً لمزار يضم رفات الجنود اليابانيين الذين شارك بعضهم في الحرب العالمية الثانية، وهي الزيارة التي تعتبرها الدول الأخرى إهانة لمشاعرها وتعميقاً لجراح الماضي. أما العامل الثاني الذي يهدد استقرار شرق آسيا فيرتبط بالصعود السياسي والعسكري للصين، والأهم من ذلك مطالبها الترابية في بعض المناطق الحيوية ببحري الصين الجنوبي والشرقي، تلك المناطق التي ربما تضم موارد نفطية مهمة سواء على سطح الجزر المتنازع عليها أو في مياهها القريبة، ناهيك عن الثروة السمكية الهائلة التي تزخر بها. وتدعم الصين مطالبها تلك بتحركاتها العسكرية في المنطقة وإرسال قواتها البحرية إلى الجزر، الأمر الذي أدى في مناسبات عديدة إلى احتكاك مع قوى البلدان المجاورة مثل كوريا الجنوبية واليابان والفلبين وفيتنام. وقد وصل التوتر بين دول المنطقة إلى حد أن شبّه رئيس الفلبين، بنينو أكينو، خلال الشهر الجاري، مطالب الصين في بعض الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي بمطالب هتلر في عام 1938 الذي ألح على تشيكوسلوفاكيا بالتنازل عن جزء من أراضيها الناطقة باللغة الألمانية ليحدث بعد ذلك اجتياح القوات النازية للبلاد في عام 1938 واحتلالها. ولعل ما يعقد الوضع أكثر بالنسبة لشرق آسيا ويوقظ المطالب القديمة التي ظلت نائمة حتى السنوات الأخيرة هو احتمال توفر المنطقة على موارد طبيعية مهمة في وقت تعاني فيه شرق آسيا من شحها، هذا بالإضافة إلى الاختراقات التي حصلت في المجال التكنولوجي وسهلت عملية التنقيب على النفط والغاز الطبيعي تحت المياه وفي أعماق البحار، وهو ما يغذي الصراع بين دول المنطقة ويصعد التوتر لتزيد بذلك احتمالات المواجهة العسكرية في حال استفحلت الاختلاف وتضاربت المصالح. لكن التنافس على الموارد ليس العامل الأخير الذي يذكي أسباب الصراع في شرق آسيا، إذ يضاف إلى العاملين الآنفين عامل ثالث مرتبط بالولايات المتحدة، فعلى امتداد فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ظلت أميركا القوة المهيمنة في شرق آسيا، والحال أن هذه القوة بدأت في التآكل مؤخراً ليس فقط بسبب تنامي قوة الصين في المنطقة، بل أيضاً لانغماس أميركا في حروب الشرق الأوسط التي كلفت تريليونات الدولارات من دون أن تؤدي إلى نتيجة حاسمة. وقد يكون هذا الخوف من التراجع في منطقة خطرة هو ما دفع أميركا إلى إعلان سياسة «الاستدارة» نحو آسيا بعد إنهاء تواجدها في العراق واقتراب انسحابها من أفغانستان. لكن ما يعيق أميركا في مسعى الاستدارة ذاك هو الميول الانعزالية داخلياً ومطالب تقليص الإنفاق عسكرياً، علماً بأن تلك الميول ليست جديدة على أميركا، فويلسون لم يدخل الحرب العالمية الأولى إلا بعد لأي وتحديداً بعدما تعرضت السفن التجارية لهجمات الغواصات الألمانية، وبالمثل واجه روزفلت معارضة قوية للمشاركة في الحرب العالمية الثانية تزعمتها حركة «الأميركيون أولا» التي أصرت على النأي عما يجري في العالم، ولم يحسم الأمر نهائياً لصالح المشاركة في الحرب إلا بعد الهجوم الذي شنته اليابان على «بيرل هاربر» في عام 1941. وحتى الآن ورغم تصاعد التوتر في آسيا فمن المستبعد جداً أن تنجر أميركا إلى حرب في المنطقة ما لم تتعرض كوريا الجنوبية أو القوات الأميركية المتمركزة هناك، إلى هجوم عسكري مباشر من كوريا الشمالية.