في ظل حقيقة أن الاضطرابات العقلية أو النفسية تعتبر من أكثر أنواع الأمراض انتشاراً على الإطلاق، حيث يقدر أن واحداً من كل ثلاثة من البشر، يشكو من أعراض نوع واحد على الأقل من أنواع الاضطرابات العقلية خلال رحلة حياته، مما يجعل عدد المصابين باضطرابات عقلية حول العالم يزيد عن 450 مليون حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، وبناء على أن 75 بالمئة من تلك الاضطرابات تبدأ قبل سن الرابعة والعشرين، أصبح الأطباء ينظرون لسنوات المراهقة والشباب المبكر على أنها مرحلة حرجة في الوقاية من الوقوع فريسة للاضطرابات النفسية، في المراحل اللاحقة من الحياة. وحتى السنوات الأولى من العمر، لا تخلو هي الأخرى من الإصابة بالاضطرابات النفسية والعقلية، فمن بين جميع أطفال العالم ومراهقيه، يعاني 20 في المئة منهم من نوع أو آخر من المشاكل النفسية أو العقلية. وإن كان تطبيق إجراءات الوقاية، وتفعيل السبل الكفيلة بخفض احتمالات الإصابة بالاضطرابات النفسية لاحقاً، دائماً ما اصطدم بعائق عدم وجود معايير واضحة، أو فحوصات محددة، قادرة على التنبوء بمن هم الأكثر عرضة للوقوع فريسة لمثل تلك الاضطرابات، وهو الوضع الذي يسعى علماء جامعة "كامبريدج" ببريطانيا لتغييره. وحسب نتائج دراسة نشرت بالعدد الأخير من إحدى الدوريات العلمية المرموقة (Proceedings of the National Academy of Sciences)، توصل الباحثون بجامعة "كامبريدج" لما يمكن وصفه باختابر أولي أو مسح، يعتمد على مستوى هرمون التوتر، أو هرمون "الكورتيزول"، بالترافق مع مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالحالة النفسية والمزاجية، للتنبوء باحتمالات الإصابة بالاكتئاب، وبشكل مماثل للمنهجية المستخدمة في التنبوء باحتمالات الإصابة بأمراض القلب مثلا. وما اكتشفه الباحثون، أن وجود مستويات مرتفعة من هرمون "الكورتيزول"، على خلفية أعراض تجسد حالة نفسية سلبية، تزيد من احتمالات الإصابة بالاكتئاب السريري أو الشديد، وبمقدار أربعة عشر ضعف حجم الاحتمالات في الأشخاص ذوي المستوى المنخفض من الهرمون، والذين لا يعانون من حالة نفسية سلبية. وحتى في الأشخاص الذين يعانون من واحد فقط من تلك الحالتين، فإن ارتفاع مستوى الهرمون أو الحالة النفسية السلبية، يعني أن احتمالات إصابتهم بالاكتئاب أقل بكثير ممن يعانون من الحالتين معاً. فمن بين أكثر من 1800 مراهق خضعوا لتلك الدراسة، تم تصنيف واحد من كل ست من الذكور بأنه ضمن الفئة المعرضة بنسبة مرتفعة للإصابة بالاكتئاب، بل تعرض نصف هؤلاء بالفعل للإصابة بالاكتئاب السريري خلال سنوات الدراسة الثلاث. والغريب، أن نتائج الدراسة لم تنطبق على الإناث، دون أن يكون هناك سبب واضح. وتتمتع هذه الدراسة، وما قد تتمخض عنه من أسلوب علمي واضح للتنبوء باحتمالات التعرض للاضطرابات النفسية مستقبلياً بين المراهقين، بأهمية خاصة، في ظل حقيقة أن عدد أفراد الفئات العمرية من الجنس البشري الواقعة بين سن العاشرة وسن الرابعة والعشرين يبلغ حاليا أكثر من 1.8 مليار شخص، أو ما يعادل ربع سكان العالم، يقطن غالبيتهم في دول العالم النامي. وعلى رغم أن معظم هؤلاء ينشؤون ويقضون حياتهم في سلامة وصحة جيدة، إلا أن 2.6 مليون منهم يلقون حتفهم سنويا لأسباب مختلفة، ويتعرض عشرات الملايين الآخرون لمشاكل ومضاعفات صحية، كما ينخرط مئات الملايين منهم خلال هذه المرحلة العمرية في أنماط سلوكية غير صحية، تؤدي إلى إصابتهم بالأمراض والوفاة المبكرة خلال المراحل اللاحقة من العمر. والمعروف أن تدهور الصحة النفسية أو العقلية، يرتبط بشكل وثيق بالمشاكل الصحية الأخرى، وبمسيرة عملية النمو والتطور البدني، والذهني، والنفسي، والتعليمي. أهم هذه المشاكل ربما كان إدمان المخدرات، والعنف البدني والنفسي، والفشل في تحقيق الطموحات التعليمية أو الأكاديمية، والإصابة بالأمراض الجنسية. ومن بين "كتالوج" المشاكل النفسية التي تؤدي إلى مضاعفات جسدية، وضمن أنواع الاضطرابات البدنية التي تؤدي إلى اختلالات نفسية، يحتل الاكتئاب مكانة خاصة، بسبب انتشاره الواسع بين المراهقين، وتسببه في قدر لا يستهان به من الإعاقة إذا كان مزمنا أو متكررا بشكل دائم، أو كونه يؤدي للانتحار في الحالات الشديدة، حيث تتميز الحالة النفسية المصاحبة للاكتئاب بانخفاض الطاقة النفسية والروح المعنوية والكره والنفور من النشاطات البدنية والذهنية والاجتماعية، بدرجة تؤثر سلبا على الأفكار، وعلى السلوك، والصحة النفسية والبدنية للمصاب. وكثيراً ما يترافق الاكتئاب مع الإحساس بالحزن، والقلق، والفراغ، وفقدان الأمل، وضعف الحيلة، وعدم جدوى الذات، والشعور بالذنب، مع العصبية وسرعة التهيج. وغالباً ما يفقد الأشخاص المكتئبون الاهتمام والرغبة في النشاطات التي كانت سابقاً تجلب لهم البهجة والسعادة، وقد تتأثر قدراتهم الذهنية بشكل سلبي، فيصبحون غير قادرين على التركيز، أو تذكر التفاصيل، أو اتخاذ القرارات السليمة. وأمام فداحة تبعات الاكتئاب، أصبحت غالبية نظم الرعاية الصحية، تولي قدرا كبير من الاهتمام لفهم طبيعة وجوانب الاكتئاب، كونه إحدى مشاكل الصحة العامة الأساسية واسعة الانتشار، وبسبب ما ينتج عنه من كم هائل من الإعاقات النفسية والبدنية، ومسؤوليته المباشرة أو غير المباشرة عن عدد لا يستهان به من الإصابات والوفيات. د. أكمل عبدالحكيم