الأصلع ذو الجدائل
يمكن على سبيل التهكّم أن تكني رجلاً أصلع بأبي الجدائل، لكن إن أصر الناس على أن هذا الأصلع يملك شعراً طويلًا ومجدولًا، فهذا يعني أن الكلمات لم تعد على علاقة بمدلولاتها، بل الكلمة تعني عكس معناها تماماً.
ومن المعروف أن اللغة أداة حمل الأفكار ووسيلة التفاهم بين المتكلمين بها، لكن الاعتداء القديم والمستمر على معاني المفردات العربية ومدلول كلماتها جعل الكثير من حواراتنا تنتهي إلى لا شيء، إذ كيف يمكن التفاهم مثلاً بين شخص يفهم الحرية بأنها المرادف «المحترم» للإباحية والشذوذ الجنسي، وبين من يفهمها على أنها الإرادة الحرة في الاختيار والانتخاب وتقرير المصير؟!
والاعتداء على مدلول الكلمات قديم في اللغة العربية ولا يقتصر على المفردات الحديثة، فتجد مترجماً لحياة بعض الشخصيات التاريخية يبدأ ترجمته بإيراد إجماع أهل عصر تلك الشخصية على أنه كان حليماً وأميناً وكريماً، وفي الصفحة التالية يروي المترجم جانباً من سيرة «الحليم» في قتل خصومه بالشبهة، واستئثار «الأمين» بالفيء دوناً عن بقية الناس، وبذخ «الكريم» مع المدّاحين من الأموال التي نهبها -رحمه الله- من بيت مال المسلمين!
ويتذكر الكثير منا ما حدث في أوائل شهر أبريل 2003، حين أطل وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحّاف من على شاشات التلفزيون مهدداً بذبح «العلوج» بينما الدبابات الأميركية كانت تسير بأمان خلف المكان الذي كان يقف فيه الوزير مهدداً بذبحهم. وكان العرب قد خبِروا مثل هذا التناقض في الكلمة ومعناها في ستينيات القرن الماضي مع المذيع أحمد سعيد الذي كان يتلو عبر إذاعة «صوت العرب» بيانات عسكرية تؤكد سحق الجيش الإسرائيلي على يد القوات المصرية في حرب 1967، بينما على أرض الواقع، كانت الحقيقة عكس ما يقول.
وما بين أحمد سعيد ومحمد سعيد، وقبلهما وبعدهما، عاشت اللغة العربية فترة غير سعيدة وهي ترى مفرداتها تستخدم في غير معناها، حتى رأينا الهزائم تسمى انتصارات، وإذا كانت الهزيمة ساحقة أطلقوا عليها اسم «أم الانتصارات»، وكلما أمعن الطاغية في القتل صار أقرب إلى مرتبة الشهداء بعد هلاكه، والانتخابات المزورة تسمى انتخابات نزيهة، ودولة القانون المقصود بها دولة الفساد والطائفية، ومن يطالبون بحقوقهم يسمون أبواق الاستعمار، ومن يعترضون على السياسات الفاشلة هم خونة، والخانع والذليل يعني المواطن الصالح، والسيادة الوطنية تعني رفض تدخل العالم في الجرائم التي يرتكبها النظام ضد أفراد شعبه، والصمود يعني الوقوف في وجه العدو الخارجي كالجبل الشامخ، حتى لو كان هذا الجبل يُوطئ بنعال الرشوة لإنجاز معاملة صغيرة في وطنه.
وإضافة إلى حواراتنا التي تشبه الحوار بين كائنات لا تنتمي إلى كوكب واحد، فربما كان الاعتداء على مدلول الكلمات العربية أحد أسباب لجوء بعض الكتّاب العرب للكتابة باللغات الأجنبية، وهجر بعض القرّاء العرب قراءة ما يكتب بالعربية، فليس الأمر كله سعي نحو العالمية، أو الحصول على الاعتراف الغربي، أو عدم التمكّن من اللغة العربية، أو التباهي باللغات الأجنبية، فقد تكون كل هذه الأسباب صحيحة، لكنها ليست كل شيء.
جذور الدلالات المغلوطة للمفردات عميقة في ثقافتنا، ولا يدري المرء ماذا يعني المتكلم أو الكاتب بالضبط من المفردات التي يستخدمها، ولا يدري إن كان القائل يتهكّم على الأصلع حين كنّاه بأبي الجدائل، أم هو فعلاً كان يرى شعراً طويلًا مجدولًا فوق رأس ذلك الأصلع؟!