لا تنفصل العمارة عن الحضارة، إذ يجب أن تتناسب ليس فقط مع المناخ وطبيعة الأرض والظروف والأحوال الاقتصادية وإنما أيضاً مع الخصوصيات الاجتماعية والقيم الدينية. وقد سبق أن تحدث «ابن خلدون» عن هذا في مقدمته الشهيرة، وقرأت هذه الآراء مستعادة وبشكل جديد وحديث فيما يكتبه العراقي رفعت الجادرجي عن «العمارة والسياسة» ولمسه بطريقة أو بأخرى حسن فتحي في «عمارة الفقراء». وجاء كتاب الدكتور خالد عزب «فقه العمران.. العمارة والمجتمع والدولة في الحضارة الإسلامية» ليدفع هذا التصور خطوات قوية إلى الأمام، إذ يثبت أن العمارة لم تكن بعيدة عن تدخل الفقه في حياة المسلمين، فالحاكم كان حريصاً على تطبيق «السياسة الشرعية» في حركة البناء والتشييد، والأفراد كانوا يسألون الفقهاء عن البنيان الذي يتناسب مع أحكام الدين، الأمر الذي أدى إلى تراكم أحكام فقه العمران مع مرور الزمن لتشكل إطاراً قانونياً يلتزم به الحكام قبل المحكومين. وفي الكتاب الذي يعد دراسة عملية شاملة وعميقة للعلاقة بين العمارة الإسلامية والمجتمع الذي صاغ البيئة العمرانية والأنماط المعمارية والدولة، نقف على رؤية السياسة الشرعية للعمران كإطار عام حاكم يتناول كليات وليست له علاقة بالجزئيات، فالسياسة الشرعية تهدف إلى إرشاد الحاكم لطرق تحقيق مصالح المحكومين ولذلك يذكر الفقهاء ما يلي «للسلطان سلوك سياسة، وهي الحزم عندنا، ولا تقف على ما نطق به الشرع». وهو الأمر الذي ذكر عنه ابن عقيل الحنفي أنه «لا سياسة إلا ما وافق الشرع» وعرف ذلك ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق كما يلي: «وظاهر كلامهم هنا أن السياسة: فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يَرد بها دليلٌ جزئي». ونجد الماوردي يحدد شروط صلاحية أي مكان للأعمار، فيذكر منها أن يستوطنها أهلها طلباً للسكون والدعة، وحفظ الأموال فيه من استهلاك وإضاعة، والتماس ما تدعو إليه الحاجة من متاع وصناعة، كما حدد ابن خلدون شروطاً يجب على الحاكم مراعاتها في اختيار مواضع المدن منها مراعاة الموقع الذي يتمتع بطيب الهواء، وجلب الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائه عيون عذبة، وطيب المراعي ومراعاة المزارع. ويفصل ابن ابي الربيع أكثر في تخطيط المدن من قبل الحاكم فيذكر أن من واجباته أن يسوق إليها الماء العذب، وأن يقدر طرقها وشوارعها حتى تتناسب ولا تضيق، وأن يبني فيها جامعاً للصلاة في وسطها، وأن يقدر أسواقها بكفايتها لينال السكان حوائجهم، وأن يميز بين سكانها بألا يجمع أضداداً، وأن يحوطها بسور مخافة هجوم الأعداء، وأن ينقل إليها من أهل الصنائع بقدر الحاجة لسكانها. وقد نظر علماء الشرع للعمارة من زوايا عدة، فهناك البناء الواجب مثل دور العبادة، والمندوب كالأسواق التي تندب لتوفير السلع للناس، والمباح كالمساكن، والبناء المحظور كالبناء على أرض الغير. بل تناول الفقهاء دور الشرع في التنظيم والتخطيط العمراني للمدن، على مستوى تحديد أحكام للسلوك في الطرق العامة، والطرق العامة الخاصة، والطرق الخاصة، ليظهر العديد من المصطلحات في سجلات المحاكم الشرعية والمصادر الفقهية مثل حفظ حق الطريق، وحقوق الجوار، وضرر الدخان، وإحياء الموات، والحوائط المشتركة، والركوب وغيرها من القوانين التي تحافظ على البيئة الحضرية في المدن. وقد مثلت عمارة المساجد أحد الأبواب المهمة لتدخل الفقه في العمران، سواء في تحديد شكله وتقسيمه الداخلي أم هيئته الخارجية. وجاءت الأسواق والمنشآت التجارية لتشكل باباً آخر، حيث خضعت الأحكام الفقهية في هذا الخصوص لاعتبارات عديدة في تخطيط أسواق المدن، لعل أولها، التوزيع المكاني الذي حكمته الحاجات المتكررة للسكان، والتخصص في حركة البيع والشراء، حيث تتعدد المنشآت التجارية كالحوانيت والقياسر والوكالات والسماسر والفنادق. وقد خصص المؤلف الفصل الخامس من كتابه لعمارة المساكن، ليستعرض نماذج تكوين واجهات منازل مدن مثل شبام ورشيد وفوه وبغداد والموصل التي تعد أشبه بتكوين قصصي، فمكوناتها تروي حكاية تكوين المبنى، وترسم ملامحه، فكل واجهة تعكس العديد من القواعد الفقهية مثل ضرر الصوت أو حق الجوار أو حيازة الضرر أو ضرر الكشف، فترى اختلافاً كبيراً في بروز أو رجوع أو حتى مساحات الرواش والمشربيات والقمريات والشمسيات في الواجهة، بل إن مداخل هذه الواجهات لا تتقابل تطبيقاً لمبدأ ضرر الكشف في فقه العمارة الإسلامية. وامتد النص القصصي للمنازل إلى توزيع وحدات المنزل من الداخل، التي قامت على تخصيص وحدات للاستقبال، وأخرى لأهل المنزل تكفل لهم درجة عالية من الخصوصية، وتعرض المؤلف كذلك لفلسفة تأثيث المنازل الإسلامية التي قامت على الاستغلال الأمثل للفراغات، بحيث تتعدد وظائف الأماكن فتنتج عن ذلك اقتصادات عالية في عمارة المساكن، وهو ما يطرح الاختلاف بين آداب ألف عام في القواعد الإسلامية والقواعد الغربية وأثر ذلك على تأثيث الأماكن. ولا يكتفي الكتاب بهذا بل يتناول فقه المياه والمنشآت المائية في الحضارة الإسلامية، حيث المنشآت المائية وأحكامها وعمارتها كالسدود، ومقاييس مياه الأنهار، والسقاية والأسبلة والحمامات، كما ظهرت في عدة مدن على امتداد العالم الإسلامي. وفي الفصل السابع من هذا الكتاب الشيق يربط المؤلف بين المجتمع والأوقاف والعمارة، حيث إن العديد من الوظائف ومنها الرعاية الاجتماعية والصحية كانت تقوم بها المجتمعات الإسلامية، وهنا تظهر منشآت مثل البيمارستانات أو المستشفيات ودور رعاية المطلقات والمطابخ التي كان يشيدها السلاطين والأمراء والأثرياء لتوفير الطعام للفقراء. وفي الفصل الأخير يتعرض خالد عزب للهندسة المعمارية، فنراه يتعرض لابتكارات المسلمين في هذا المجال وظهور علوم جديدة كعلم عقود الأبنية، وهو علم يتناول أوضاع الأبنية وكيفية شق الأنهار وتنقية القنى وترميم المساكن... الخ، وكذلك علم استنباط المياه الكامنة في الأرض وإظهارها لإعمار الأرض وزراعتها، ويعرفنا المؤلف على طائفة المعماريين ودورها الحضاري، ويكشف لنا عن أصول الرسم المعماري ونماذجه لدى المسلمين، واستعانة القضاة بالمهندسين كخبراء في مجال قضايا العمارة، ويقدم لنا سيرة أشهر المعماريين في حضارة المسلمين.