ما زالت «الإمامة» كمسألة سياسية مثيرةً للجدل، ولولا مثولها في النزاع الطائفي الجاري، وما ينتجه من كراهيات، ما أستدعي التذكير بها. غير أن المسافات أخذت تتباعد بين الأحياء، وهم يقطنون جغرافيا واحدة، مثلما باعدت بين الأموات، حيث الافتراق في المقابر، والاختلاف بالتكبيرات على الجنائز، وهذا لا ضير فيه إذا ظل بحدود الفقه لا السياسة. أقول: لو أُخذت مسألة الإمامة بما أفاد به الشيخ محمد رضا المظفر (ت 1963)، وهو من كبار المدرسة النجفية وأستاذ حوزتها، فالرجل قد أدرك عُقم الجدل فيها على أنها مسألة معاشة، حين قال: «ولا يهمنا من بحث الإمامة، في هذه العصور، إثبات أنهم الخلفاء الشرعيون وأهل السلطة الإلهية، فإن ذلك أمر مضى في ذمة التاريخ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد» (عقائد الإمامية). هذا في أجواء عصرنا الراهن، ونعيد التذكير بما قاله الأسبقون عن الخسائر بالأرواح والثروات، فقد اعتبر، قبل نحو تسعة قرون، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت 548 هـ) خلاف الإمامة قضية سياسية، ومن أخطر القضايا: «إذ ما سُل سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سُلّ على الإمامة في كل زمان» (كتاب الِملل والنِّحل). هذا، وقد حذّر منها قبل الشهرستاني، بنحو مئتي عام، «إخوان الصَّفا» في رسائلهم الشهيرة: «في بيان سبب اختلاف العلماء في الإمامة فنقول: اعلم أن مسألة الإمامة هي أيضاً من إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء... كثر فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين العداوات والبغضاء، وجرت بين طالبيها الحروب والقتال، وأبيحت بسببها الأموال والدماء، وهي باقية فيه إلى يومنا هذا، لم تنفصل بل كل يوم يزداد الخائضون المختلفون فيها خلافاً على خلاف، وتتشعب لهم فيها ومنها آراء أو مذاهب، حتى لا يكاد يحصي عددها إلا الله» (الرسالة الأولى، في الآراء و الديانات). أتينا على هذه النصوص كي نستوعب خطورة هذه القضية السياسية بالدرجة الأولى، وفي كل الأزمان من ذلك العصر إلى يومنا هذا. كان محفز هذه الكلمة ما نشره وزير الثقافة الإيراني الأسبق عطا الله مهاجراني تحت عنوان «القصة الغريبة لمقال ديني في إيران» (الشرق الأوسط، العدد 1237)، متحدثاً عما طرحه أحد الباحثين في صحيفة «بهار» الإيرانية (أكتوبر الماضي) وهو «علي أصغر غروي»، الذي اعتقل بسبب مقال فسر فيه نظرية أو فكرة والده آية الله جواد غروي في قضية الإمامة، وذلك في كتابه «أحاديث». نُشر المقال في يوم «الغدير»، وهو عيد لدى الشيعة، وعطلة رسمية في إيران والمناسبة هي الوصية الإلهية للإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ)، فجاء واضحاً أنه ردٌّ على فكرة ولاية الفقيه وممارساتها المتصلة بتلك المسألة. اشتهرت الخطبة النبوية، في كتب التاريخ، باسم خطبة الغدير (غدير خُم)، لكن الخلاف جرى على تفسيرها، هل هي وصية لولاية سياسية أم إيمانية! بمعنى هل هي السلطة أم العِلم؟ أما في كُتب السُّنة فجاءت من باب التكريم لشخص علي، شأنه شأن ما جاء من خُطب وأحاديث في المناقب. كذلك لم يتوقف الجدل بين علماء الشيعة أنفسهم في شأن كونها إمامة سياسية أم علمية فقهية إيمانية. ورد في مقال مهاجراني: «وبعد الكتاب الذي أصدره آية الله العظمى جواد غروي، أصدر آية الله حائري يزدي، ابن مؤسس الحوزة العلمية في قُم، كتاباً حمل عنوان: الحكمة والحكومة، في عام 1995، الذي أوضح فيه ذلك الفارق بين النبوة والإمامة والخلافة، وقد جرى حظر ذلك الكتاب في إيران» (الشرق الأوسط). ومعلوم ما الفرقُ بين الحكمة والحكومة، أي ما بين العِلم والسلطة. في الجانب السني ذهب الشيخ علي عبد الرازق (ت 1966)، في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» (1925)، إلى عدم وجود دولة بتكليف إلهي، وكان يفند حجة خلافة الملك فؤاد الأول (ت 1936) لإشغال فراغ الخلافة العثمانية (حُلت 1924)، فأُثيرت ضجة شديدة ضده آنذاك مما سبب حذفه من الأزهر. لقد جادل ذلك الأزهري الفكر السني في قضية الخلافة أو الدولة الدينية، التي أفرزت الإسلام السياسي. أما الغروي واليزدي، وهما عالما دين من الشيعة الاثني عشرية، فقد تبنيا مجادلة الفكر الشيعي في الإمامة بمداها السياسي، على أن الإمام علي أُوصي له بخلافة العلم لا السلطة السياسية. ووفقاً لتلك المصادر برهن كاتب المقال في «بهار» ما برهنه عبد الرازق من قبل، وهو «لم ترد في القرآن الكريم آية صريحة تشير إلى تسمية الإمام...» (مقال مهاجراني). والإمام علي لم ينسب لنفسه في «نهج البلاغة» أي حق سماوي في أن يكون خليفةً. هذا أهم ما جاء في مقال الغروي -من غير ذِكر عبد الرازق- واعتقل صاحبه. هناك من يرى أن وراثة السياسة أقل شأناً من وراثة العلم، ليس الغروي واليزدي فحسب، وهما من الشيعة، وإنما يأتي مِن خارج الشيعة. على سبيل المثال فإن أهل التصوف كافة يعتبرون علياً الحلقة بينهم وبين النبوة بعلم الطرائق، على محمل العلم لا السياسة. ومن غيرهم يقول الشهرستاني في حفيد علي، جعفر الصادق (ت 148 هـ): «ما تعرض للإمامة قط، ولا نازع أحداً في الخلافة قط، ومَن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط» (الملل والنِّحل). ما يجعلنا نستشهد برأي الشهرستاني، مقدمات جاءت في تاريخ إقامة الدولة العباسية، إنه لما عُرضت الدعوة على الصادق من قِبل الدعاة كحفص الخلال (قُتل 132 هـ)، رفض العرض، وحرق كتاب الخلال (ابن الطقطقي، الفخري). لكن ما يجري الآن هو «التعبد بالنَّص» (الصَّدر، بحث حول الولاية) لا الاجتهاد. لسنا بصدد نفي أو إثبات الوصية الإلهية، إنما كيف يستمر الجدل إلى حد القاتل والمقتول والأمر بات في حُكم الماضي البعيد، على حدِ تنبيه الشيخ المظفر؟ قلنا الزمن كفيل بالتقليل مما مضى، ولدعبل الخزاعي (ت 246 هـ) وقيل لأبي العتاهية (ت نحو 211 هـ): «وإذا انقضى همُّ امرِئٍ فقد انقضى/ إن الهموم لأشدهنّ الأحدثُ» (النَّشابي، المذاكرة في ألقاب الشُّعراء). وللحديث صِلة.