«الربيع العربي» ورهان التعددية السياسية
رغم المشكلات المستعصية التي تمر بها دول «الربيع العربي» والصعوبات المرتبطة بمراحل الانتقال الديمقراطي وما صاحبها من تعثرات، يصر الدبلوماسي والأكاديمي الأردني المخضرم، مروان المعشر، على تقديم قراءة مختلفة تغوص عميقاً في إشكالات «الربيع العربي» واشتراطات الانتقال الديمقراطي،دون السقوط في فخ إصدار الأحكام، أو التوقعات المجازفة بشأن المستقبل. فهو في كتابه «الصحوة العربية الثانية والمعركة من أجل التعددية»، لا يتردد في الجزم بأن مآلات الثورات العربية التي انطلقت في عام 2011 لم تحسم بعد، لذا من المبكر إصدار الأحكام، إن بالفشل أو النجاح، لأن التاريخ يعلمنا أن مسار التحول الديمقراطي يستغرق سنوات وعقوداً؛ لكن ذلك لا يعفي من رصد أخطاء الثورات وعثراتها، فقد عانى بلد عربي تلو الآخر من الاضطرابات الأمنية والسياسية والتدهور الاقتصادي عقب الهبات الشعبية التي أسقطت الأنظمة. كما فشلت النخب اللاحقة، لاسيما الإسلامية منها، في تلبية احتياجات الناس وجلب الاستقرار المفقود، وهو ما يثبت أن الحاجة اليوم ليست للرجوع إلى الوراء وتكريس وضع ما قبل الثورات، باختلالاته وسلبياته، بل يكمن الحل في بدء عملية شاقة وطويلة لبناء عالم عربي يرتكز على التعددية والتسامح. وحينها فقط -كما يؤكد الكاتب- يمكن وصف ما جرى بأنه «صحوة عربية ثانية» وبأن المعركة من أجل التعددية قد كسبت.
لكن الكاتب حتى يتعقب إخفاقات «الربيع العربي» يعود بنا إلى الصحوة العربية الأولى متمثلة في ثورة النخب العربية خلال القرن التاسع عشر على الإمبراطورية العثمانية، تلك الثورة التي قادها مجموعة من المثقفين مهدت الطريق لانبثاق عالم عربي جديد كُلل بحركات التحرر التي جلبت الاستقلال في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. بيد أن تقييم الكاتب للصحوة الأولى لم يكن إيجابياً، فقد فشلت في الارتقاء إلى تطلعات الشعوب ليتم استبدال ظلم الاستعمار بظلم محلي جسدته الأنظمة العسكرية وهيمنة الحزب الواحد، فكان أن غرقت البلدان العربية في عقود من الفشل السياسي وإهدار الإمكانات الاقتصادية، وما صاحب ذلك من فشل مزمن في حل القضية الفلسطينية، والتأسيس لحكامة جيدة... فهل استوعب العرب أخطاء الماضي من أجل بلورة مستقبلهم السياسي في ظل «الربيع العربي»؟
يجيب الكاتب بأن استفادة العرب من دروس الماضي بتبني أنظمة سياسية تعددية يعتمد في الأساس على شعوب الدول التي قامت بالثورات. وفيما يتعلق بالإسلام السياسي الذي كان أحد إفرازات «الربيع العربي»، يؤكد الكاتب أن ظهوره على الساحة كان طبيعياً، فقد كانت التيارات الدينية القوة الوحيدة المنظمة خلال فترة الحكم العسكري والحزب الواحد. لكن صعودها أثبت فشله، كما هو الحال في مصر، فالنضال والوصول إلى السلطة لا يعني النجاح في الحكم، ذلك أن وعود الحكامة الجيدة التي حملت التيار الديني إلى السلطة خضعت بعد الانتخابات لاختبار قاس، ليكتشف الشعب أن تحقيق المطالب الاقتصادية العاجلة يتطلب أكثر من شعار «الإسلام هو الحل»، ولم تعد الشعوب تقيِّم أداء الإسلاميين (والعلمانيين أيضاً) على أساس أيديولوجي، بل وفق الإنجاز على أرض الواقع وإيجاد حلول ملموسة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية. لذا يرى الكاتب أن الأمل معقود على جيل الشباب العربي الذي أطلق شرارة الثورات في بدايتها بعد أن فشلت النخب، سواء في صيغتها الإسلامية أو العلمانية، في ترجمة مطالب الثورة على أرض الواقع وتحقيق الانتقال الديمقراطي السلس الذي مازال متعثراً. فالشباب هم القوة الثالثة التي تتوسط الإسلاميين من جهة ومن جهة أخرى الأنظمة الآفلة التي ما فتئ رجالها يناورون للحفاظ على امتيازاتهم والتسلل إلى مواقع في النظام الجديد. لكن تلك القوة التي تمثلها شريحة الشباب نجحت فقط في تحديد الجانب الذي هي ضده، دون أن تبلور ما تجسده، وسيتطلب الأمر سنوات لبناء قدرات تنظيمية ومالية لتحقيق قطيعة تامة مع الماضي.
وإذا كانت الصحوة العربية الأولى قد فشلت في التأسيس لنظام تعددي يضمن لها النجاح، فإن الصحوة الثانية، يقول المؤلف، بحاجة ماسة لتلافي الأخطاء السابقة وللتأكيد على القيم الكونية متمثلة في الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان.
وعلى العموم فإن النتيجة النهائية لم تحسم بعد، وسيأتي حين من الدهر تحاول فيه القوى الإقصائية السيطرة مجدداً على الحياة السياسية والتأسيس لديكتاتوريات جديدة، لكن في النهاية -كما يؤكد الكاتب- ستفشل تلك القوى ومحاولاتها النكوص إلى أنظمة حكم مطلقة، كما فشلت من قبل، لأن الخطابات الإقصائية مهما كانت تحالفاتها الإعلامية المزيفة للوعي وامتداداتها في دهاليز الدولة العميقة، لن تستطيع في الأخير تحسين حياة الناس اقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
زهير الكساب
الكتاب: الصحوة العربية الثانية والمعركة من أجل التعددية
المؤلف: مروان المعشر
الناشر: جامعة ييل
تاريخ النشر: 2014