كثيرة هي الشواهد الدالة على أن عام 2014 سيشهد نهاية ما أُطلق عليه نموذج الاعتدال الإسلامي، الذي بدأ عام 2002 في تركيا، بعد أن فتن دولاً غربية كبرى أُعجبت به وتمنت تعميمه في الشرق الأوسط. فقد كان أداء «حزب العدالة والتنمية» ذي الجذور الإخوانية في بدايته مبّشراً ببناء نموذج «إسلامي ديمقراطي» يحقق نجاحاً سياسياً واقتصادياً. لذلك وجد دعماً من جانب قوى أخرى ضمت شريحة مهمة من الليبراليين الذين صدّقوا التزامه بالديمقراطية، وظنوا أنه يهدف حقاً إلى إقامة دولة مدنية، فوقفوا معه في معركته لإبعاد الجيش عن المعادلة السياسية. لكن أزمة «النموذج»، الذي بُني على مدى أكثر من عشر سنوات، تفاقمت خلال الشهور التسعة الأخيرة. ولم يكن انطلاق الاحتجاجات الواسعة ضد خطة «تطوير حديقة غيزي» في إسطنبول في مايو الماضي إلا بداية تفاقم أزمة هيكلية ظلت كامنة في بنية ذلك «النموذج» نفسه. فكان اندلاع تلك الاحتجاجات تعبيراً عن بلوغ الأزمة المبلغ الذي لا يسمح بإبقائها تحت السطح، وإيذاناً بتطور سريع فيها ظلّت عوامله كامنة أو محجوبة لسنوات، بفعل الصورة الإيجابية الناتجة عن إنجازات اقتصادية ومالية كبيرة وإدارة هادئة للصراعات السياسية وفي مقدمتها الصراع مع المؤسسة العسكرية. لذلك لم تمض أكثر من سبعة شهور على بداية ظهور الأزمة، انطلاقاً من ساحة حديقة غيزي، حتى دخلت في مرحلة دقيقة منذ الكشف عن فضيحة الفساد الكبرى التي أظهرت تواطؤ الحكومة، صانعة «النموذج»، مع عشرات من رجال الأعمال والنواب المقربين من رئيسها أردوغان في ممارسات غير مشروعة، تشمل أعمال تربح وغش وغسيل أموال وغيرها من الأنشطة المخالفة للقانون وللأخلاق في آن معاً. وبدت الفضيحة مدوية بمقدار عمق تورط الحكومة وحزبها في فساد من العيار الثقيل، وبسبب حدة رد فعلهما ورئيسهما المختال زهواً بـ«نموذجه». فقد تعامل أردوغان وحكومته مع هذه الفضيحة بانفعال حاد مصحوب بإجراءات قمعية سافرة وتشديد قبضة السلطة التنفيذية على القضاء وغيره من مؤسسات الدولة، وغلق ما بقي من منافذ حرة يتنفس عبرها الناس بعد إحكام الهيمنة على الإعلام المرئي والمطبوع. وليس مستبعداً أن يكون انفلات أعصاب أردوغان، منذ إسقاط حكم «الإخوان» وعزل الرئيس المنتمي إليهم في مصر، قد أسهم في زيادة حدة تعامله مع فضيحة الفساد الكبرى. غير أنه ما كان محتملاً أن تختلف طريقة تعامله هذه مع الفضيحة كثيراً، لو أن شيئاً لم يتغير في مصر في يوليو الماضي. فهو لا يملك بحكم خلفيته طريقة أخرى في إدارة الأزمات حين تتفاقم وتمثل خطراً على حكمه. ولا يختلف من يعتبرهم البعض إسلاميين معتدلين عمن يوصفون بأنهم متطرفون أو متشددون عندما يتعلق الأمر بكيفية التعامل مع الآخر، خاصة في وقت الأزمات الكبرى. لذلك لم يستطع أردوغان، وقد دخلت الأزمة في مرحلة متقدمة، الاحتفاظ بحالة الهدوء التي حرص عليها لسنوات طويلة ومواصلة أسلوب الهيمنة التدريجية على مؤسسات الدولة ومفاصلها بشكل بطيء ولكنه مطرد. كما لم يكن بإمكانه، بحكم منهجه الذي لا يعرف غيره، أن يعترف بالحقيقة ويتحمل المسؤولية بشجاعة فيعتذر ويستقيل ويتعهد من يخلفه بإنهاء الفساد واحترام أحكام القضاء. وهكذا، فقد أردوغان وحزبه ما ميّز «النموذج» المنسوب إليهما مقارنة بتجارب الأحزاب ذات الخلفية «الإخوانية» في مراحل سابقة وأهمها تجربة حزب «الرفاه» وزعيمه نجم الدين أربكان الذي أدى تعجله إلى إسقاطه في التسعينيات، وكذلك تجربة «الجماعة الأم» خلال العام الذي تولى فيه محمد مرسي الرئاسة في مصر. فقد اندفع أردوغان بسرعة غير مسبوقة باتجاه إكمال الهيمنة على مؤسسات الدولة ومصادرة ما بقي من منافذ قليلة لحرية التعبير. وفي الوقت الذي استخدم سلطة حكومته لإبعاد عدد كبير من رجال الشرطة وموظفين كبار في عدد من المؤسسات والهيئات العامة خاصة هيئة التنظيم والإشراف على المصارف، وهيئة الاتصالات العامة (تي.آي.بي)، تحرك نحو إخضاع السلطة القضائية بشكل كامل والسيطرة على الفضاء الإلكتروني. ولم يكتف أردوغان بإبعاد مدعين عامين ونوابهم ووكلاء نيابة عن التحقيق في فضيحة الفساد الكبرى، وإسنادها إلى آخرين شرعوا على الفور في طمس أدلة وإخفاء وثائق مهمة، بل وضع أتباعه في البرلمان مشروع قانون ينهي استقلال القضاء ويُخضعه لهيمنة السلطة التنفيذية بشكل كامل. فيسمح هذا المشروع لوزير العدل، وبالتالي لرئيس الحكومة، بتعيين القضاة وتوزيعهم على المؤسسات والهيئات القضائية بما فيها المحكمة العليا. وفضلاً عن إساءة استخدام الأغلبية البرلمانية في ممارسة فجة لما يسمى «دكتاتورية الأغلبية» على هذا النحو، يعتدي أردوغان وأتباعه في حكومته وحزبه اعتداءً مباشراً على الإرادة الشعبية عبر تغيير قانون تم اعتماده بموجب استفتاء عام أُجري سنة 2010. والثابت في أي نظام ديمقراطي أو شبه ديمقراطي، أن ما يُقر عبر الاستفتاء لا يمكن تغييره إلا بالعودة إلى الشعب مرة أخرى، ولا يجوز للبرلمان أن يقوم بهذا التغيير. لذلك يمثل مشروع القانون الجديد للسلطة القضائية المطروح على البرلمان الآن المسمار الأخير في نعش التطور الديمقراطي والضربة القاضية على ما اعتُبر نموذجاً مبشِّراً في آن معاً. فعندما كان أردوغان حريصاً على التدرج في عملية السيطرة على مؤسسات الدولة، أدار المعركة مع المؤسسة العسكرية على نار هادئة. لذلك لجأ إلى إجراء استفتاء شعبي عام 2010 حين أراد تغيير القانون السابق للسلطة القضائية لإنهاء ما اعتبره نفوذاً للجيش والقوى الأتاتوركية العلمانية في هذه السلطة. ولم تأت نتيجة ذلك الاستفتاء بالموافقة على تغيير القانون إلا لدعم شريحة أساسية من الليبراليين الذين ظنوا أن الجيش هو الخطر الأساسي على الديمقراطية وليس حزب أدروغان «الإخواني». فقد وافق 58 في المائة على تغيير القانون، بزيادة 10 في المائة على ما حصل عليه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات السابقة على هذا الاستفتاء. لذلك يرفض كبار القانونيين الأتراك تغيير قانون السلطة القضائية مجدداً بدون استفتاء شعبي، بمن فيهم البروفسور المعروف عالمياً أوز بودون الحريص على حياده الكامل. ويتعرض بودون الآن لهجوم حاد من جانب حكومة أردوغان، رغم أنها قالت فيه شعراً وأشادت بفقهه وحياده عندما أوكلت إليه اقتراح مشروع دستور جديد عام 2007. وهكذا يبدو أن الستار يُسدل الآن على ما اعتبره باحثون «نموذجاً إسلامياً معتدلاً» احتفت به الولايات المتحدة ودول أوروبية عدة ونظرت إلى الأوضاع في بلاد أخرى في المنطقة على مقاسه. لذلك فالأرجح أن يسجل التاريخ عام 2014 باعتباره نهاية ذلك النموذج، مثلما اعتُبر عام 2002 بدايته.